لم يعد تزامن الأحداث التراجيدية في مواقعنا شأنًا عابرًا، فتكرار مشاهد الدم بروتينية عبثية بغيضة دجّن مشاعرنا وبلّد عقولنا حتى تحوّل سواد الناس الأعظم إلى مجرد كائنات تستشفع القدر أن ينجّيهم من غضب السماوات، وتستمطر الرحمة والنجاة من حكم مسدس طائش أو “زغرودة” عصا عمياء، وتدعو الليل ألا يجبّ هدأةَ نعاسها مَن صاروا على السلامة قيمين وفي ساحات بلداتهم آمرين وناهين.
يعمينا رذاذ الروايات الحزينة ويفسد حسّنا فرط الوجع، ولكن من يحاول الابتعاد، ولو لمسافة شهيق، محملقًا في واقعنا من علٍ ومهملًا الزحمة في تفاصيل الرمل، سيرى أن ما يجري على أرض فلسطين عامة وبين المواطنين العرب في داخل إسرائيل على وجه الخصوص، يشبه، إلى حد القلق، ما حدث ويحدث في معظم الدول العربية المحيطة بنا.
وإذا ما حيّدنا الفوارق الطبيعية بين الحالتين (الدول العربية وحالتنا) سنجد أن محاور المستهدفين والاستهداف واحدة، و”عناصر الخراب” متماثلة، ففي معظم الدول العربية قوّضت “قوى الظلام” بُنى تلك الدول، الضعيفة أصلًا، ونجحت بتفكيك عراها السياسية الإجتماعية الجامعة اللاحمة مما أدى إلى تحلل مجتمعاتها وعودتها إلى أشكال تكونها البدائية الأصلية.
فهوياتها القومية شوّهت أو محيت، ومكانة “الشعب” آلت إلى حالة من الالتباس دامية، في حين تقزم مفهوم القيادة الوطنية إلى مسخ وقناع يخفي وراءه أصناف “نخب” شتى كلها تتدافع برغبة جامحة نحو مقاليد السيطرة، لكنها بريئة، في الواقع، مما كانت الشعوب تحلم بالحصول عليه من كرامة فردية وعدالة إجتماعية وعزة قومية- في زمن كان للعروبة عرين، وللعلمانية مرافئ، وكانت العقول منابت للآفاق والأمنيات.
ألم نُصَب بالدائين: مجتمع يتشظى، وقيادات تتفلى وتصطاد عصافير الوهم والطيور المهاجرة؟
قبل أيام غادر ثلاثة مواطنين عرب من سكان أم الفحم بيوتهم الدافئة ومدينتهم إلى القدس، وقاموا بتنفيذ عملية مسلحة أطلقوا خلالها النار، في محيط المسجد الأقصى، على قوة شرطة إسرائيلية فقتلوا شرطيين إسرائيلين وجرحوا آخرين، وقُتلوا ثلاثتهم بنيران قوات الأمن الإسرائيلية.
العديدون ممن تطرقوا إلى هذه العملية أجمعوا على “شذوذها”، لكن معظمهم تحايلوا على طريقة وصفها، كما كانوا يتمنون، وذلك من خلال لجوئهم إلى بطون دوائر كلامية هشة تعكس أزمة الخطاب السياسي للعرب المواطنين في إسرائيل، وهو الذي يعنيني في هذه المسألة بخلاف من تناولها وتحدث عنها من الضفة الغربية المحتلة أو غزة أو العالم الأوسع.
وقبل التطرق إلى سحر “البيانات” التي صدرت في أعقاب العملية من اللافت أن نعرف أن “القائمة المشتركة” لم تصدر بيانًا يعبر عن موقفها من العملية التي اعتبرها الجميع حدثًا صاخبًا واستثنائيًا، وذلك على الرغم من كونها أكبر وأهم جسم سياسي قيادي ناشط بين المواطنين العرب في إسرائيل.
سكوت القائمة المشتركة واستنكافها عن إصدار بيان، مهما كان سيحمل من مواقف، يعد استهتارًا بناخبيها وقصورًا خطيرًا في فهم قيادييها لمعنى المسؤولية العليا ولوظيفة القائد، لا سيما في ساعات الشدة وعند المنزلقات الخطيرة.
أمّا “لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل” فلقد اختارت أن تمسك عصا “الحكمة” من وسطها، وعبرت في بياناتها، ومثلها فعل في الحقيقة عدد من الأحزاب والحركات والمؤسسات الجماهيرية العربية، عن موقف “واسع الذمة” أخطأ عمليًا ما كان مرجوًا منه ولم يوصل رسالتها الرئيسية بوضوح.
فتلك البيانات يجب تقرأ كوحدة كاملة، من ديباجاتها إلى قفلاتها، مع العلم أنها ستفهم على خلفية ما سبقها من مناخات دعوية سادت في مدننا وقرانا، وعظات نارية حُمّلت في السنوات الأخيرة شحنات من التجييش المباشر جعلت من استشهاد الشباب في سبيل المسجد الأقصى غاية ترتجى وأمنية تستدعى.
لذلك قد يغدو في هذه الفضاءات تأكيد لجنة المتابعة في جمل يتيمة من بيانات مشحونة طويلة على أن من “حقنا وواجبنا الكفاح والنضال ضد الاحتلال وسياسات المصادرة والإقصاء، ونضالنا كان ويجب أن يبقى سياسيًا وجماهيريًا وشعبيًا”، مجرد محاولة للوشوشة العاقلة الخجولة في ميدان حرب أهوج!
كان من الضروري برأيي، فرز الجوهري من الهامشي وتقديم الواجب الملح على الحق المطلق والخروج إلى الجماهير المندهشة بموقف سياسي مباشر واضح، على الأقل من قبل من يؤمن بوجوب شجب العمليات العسكرية كوسيلة نضال شرعية بيننا في إسرائيل، وذلك بدون حاجة للتأكيد المسهب على كون القدس محتلة (هنالك من أصر أن يكتب القدس والأقصى وكأننا في صدد كيانين منفصلين) ولا التأكيد المطوّل على واجبنا في الكفاح ضد احتلالها في سياق معالجة هذه العملية وما رافقها من تداعيات ودقائق استوجبت مزيدًا من الحذر والحزم؛ فأولًا، القدس محتلة منذ خمسة عقود ومن غير المعقول والمقبول أن تفطن القيادات العربية في إسرائيل لكونها محتلة في المواسم السياسية العابرة أو بعد كل عملية تورط القدس وأهلها في مزيد من برك الدم والقمع الاسرائيلي، وثانيًا، لا علاقة طبيعية لكونها محتلة برفض أو تحفظ مصدّري البيانات المتعلقة بهذه العملية بالذات، فربط ذينك العاملين (كونها محتلة ورفضك للعملية) يضعف موقفك مرتين ويترك للجميع حرية الاجتهاد والتفسير والاسترشاد، فمن يؤيد العملية في سرّه يرى “الغمزة” معلقة على كتف “الكفاح” الذي دعا البيان إليه، ومن يشكك في جدية رفض كاتب البيان للعملية يرى “الزوغة” في غنج النضالات الشعبية المقصودة في النداء.
إن عدنا إلى بيانات قادة لجنة المتابعة فسيتضح لنا أنهم أجزموا “أن نتنياهو يطبق مخططات مبيتة لإفراغ الأقصى من أصحابه” وكأن باقي نواحي وجنبات القدس العربية محررة في أيدي أصحابها الأصليين، والأهم فإن هذا اليقين لم يأت بجديد على ما قلناه منذ سنوات وجَعَلنا نقترح على من أصر إقحام الأقصى في وسط آتون الصراع وتحويله إلى النقطة الأسخن الوحيدة في القدس وفي فلسطين، أن يتنبهوا أنهم يفعلون عمليًا ما ينتظره منهم اليمين المتطرف وحكومة نتنياهو الحالية.
أما الحقيقة هي، على ما يبدو، أن المتابعة لم تستطع إصدار بياناتها إلّا على هذا الشكل وذلك لوقوعها تحت تأثير قوة الحركة الإسلامية الشمالية، فمن يدقق في النصوص لن تخفى عنه روح خطاب الحركة ونبض استعاراتهم ومداد محابرهم.
وقد نجد أحسن مثال على ذلك في لغة بيان المتابعة الذي صدر في يوم الاثنين الفائت بعد لقاء رئيسها السيد محمد بركة بالمرجعيات الإسلامية في القدس (من الغريب عدم إجراء اللقاء مع المرجعيات الوطنية والإسلامية المقدسية) وحين نقرأ في نهايته “.. فإننا سنتواصل مع أهلنا في القدس وفلسطين في هذا الثبات على العقيدة والايمان والدفاع عن المسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبينا الكريم (صلعم)”.. نرى كيف غابت كل القدس عن النص وغابت لجنة المتابعة الجامعة الموحدة .
لا أهمية لنية كتبة البيان فروحه بدت للبعض فئويةً ضعيفة، وقد ينفع تذكيرهم، بهذا السياق، على أن الأقصى لم يسقط بعد وبجهود أهل القدس ومن يعملون بمسؤولية وطنية عليا وبعقلانية سياسية ورشد مؤثرين لن يسقط، ولكن، بالمقابل، سقطت مواقع كثيرة في القدس وابتلعتها ماكينات التهويد الفظيعة، وأخرى ما فتئت تئن تحت شفرات بولدوزات حكومة نتنياهو، فأين كانت الحشود، مثلًا، يوم صارت “ماميلا” المحاذية لباب الخليل، سوقًا تستقطب حوانيتها ومقاهيها جموع المتسوقين العرب الوافدين اليها، وأين كانت باصات المدد يوم جثمت فنادق الإسرائيلين وأعلامهم في حضن “الشيخ جراح” و أطبقت “بسجات زئيف” على “عناتا” المحاصرة وعلى “راس خميس” و”بيت حنينا” المقطعة أوصالها، وساعة أحاطت “التلة الفرنسية” ب”العيسوية” وداعبتها كما يداعب دب جريزلي فريسته الأثيرة.
فكل هذه “القداديس” هوت ولم يشد إليها المؤمنون والمناضلون لا رحالًا ولا حتى قبضة، ولم يجفف دموع أهلها لا خطيب ولا شيخ ولا ثائر!
البيانات المعوّمة تبقى مجرد ضرائب تحبّر على مذابح الشهرة والعجز، وإن لم يكن كافيًا كل ما ذكرت، فاليوم ونحن نشاهد الدماء البريئة تتطرطش في أزقتها الحزينة، تتعرى أمامنا فصول “مذبحة” كبيرة ضحاياها عشرات المواقع وآلاف الدونمات من أرض القدس المسيحية العربية، فها هي أخبار صفقات بيعها من قبل رؤساء الكنيسة اليونانيين وأعوانهم العرب تغزو عناوين الجرائد وتصلكم كحبات البندق، وألقوم على الأرائك والقادة على المنابر دون أن يعيروها غصة أو خطبة استنكار واحدة لرفع العتب.
ما جرى قبل أيام في القدس سيترك ندوبًا عميقة في وجه مدينة ثاكلة، وشجب العملية بوضوح والتحذير من مخاطرها كان ضرورة، ولو تم لجنّب القيادات مخاضات التخبط وعناءات الحرج ومحاولات الانقاذ والترقيع والتبرير، التي زادت الأوضاع تعقيدًا، كما شاهدنا مؤخرًا .
فلَكم قلنا في الماضي: الأقصى لن يكون حرًا إذا بقي تراب القدس مغتصبًا، ولن تكون القدس أخت الشهية إذا ما ضاعت أوقافها المسيحية وبقيت “قيامتها” تحت سطوة الغريب الأجنبي .
فالقدس لم تعد مطية عروبتكم. إنها جواز سفرنا إلى الحرية وجنة الوطن المشتهى، “فلا تسقطوا عنا جواز السفر”.