“ترامب” المُغامر لم يُجدد إلا القديم… خطاب في ظاهره دغدغة لمشاعر الإسرائيليين وتماشيا مع أهوائهم، وفي باطنه قديم يرسخ الوضع الراهن والقائم منذ سنين. نصر لطرف على حساب آخر، فما الجديد؟! سوى كسر توافقات وتفاهمات دبلوماسية في الخطاب الرسمي.
القدس (الغربية) إعتُرف بها عاصمة لإسرائيل منذ دخول اِتفاقية أوسلو حيز التنفيذ وقرار “الكونغرس” منذ عام 1995… لا جديد في الأمر.
ترامب رسم وعرّف في خطابه حدود القدس “عاصمة لإسرائيل” تلك التي يقع فيها الكنيست وديوان رئيس الدولة والمحكمة العليا الإسرائيلية، بمعنى، بصورة غير مباشرة يتحدث عن الغربية، ووقع في نفس الوقت على القرار الذي يؤجل نقل السفارة إلى القدس بشكل فعلي حتى اِكتمال الإجراءات التقنية، بمعنى، تنفيذ وعد اِنتخابي على الأقل كلاما لا فعلا لكسب الوقت، فمن يدري متى ستنتهي هذه الإجراءات؟! يجوز بعد ولايته الأولى مثلا؟! وتعمد في خطابه القول المسجد الحرام والمسجد الأقصى و و و وأن الحدود سيقررها الطرفان بمفاوضات وتوافق، رسائل تطمينية تكلّفية لا تساوي جهد اِلقائها.
خطاب في ظاهره جديد، لكن في باطنه ما كان سيكون، لكن هذه المرة، مع وضع الجانب الفلسطيني في صراع مع الزمن، فقد قلب ساعة الرمل كأن لسان حاله يقول: كلما تأخرتم بقبول الاملاءات أكثر خسرتم أكثر… مرة أخرى “تقهير سياسي” واِرضاخ.
ما مِن شك أن “ترامب”، وإن بدا محافظا على الإجراءات الدبلوماسية الكلاسيكية المتعارف عليها للوهلة الأولى، إلا أنه يؤكد باستمرار من خلال نهجه أنه رجل لا يعترف بثوابت أو تفاهمات ولا يهاب كسر كل قيم “البرتوكولات” الدبلوماسية المتعارف عليها سياسيا وخطابيا، بل يتصرف وكأنها لم تأتِ بمثله الأوائل.
هل الغضب مبرر؟
كل هذا الغضب الذي يتملك الغالبية الساحقة يأتي نتيجة لمنح مَن لا يستحق ما لا يستحق! الولايات المتحدة مُنحت ما لا تستحق، وتعايشنا مع قبول دورها في الوصاية والراعية والوساطة كتحصيل حاصل، رغم أنها كانت وما زالت طرفا في الصراع وليست وسيطا حياديا، على الأقل تاريخيا، يتم التعامل معها على أنها “المُخلّص”، وهذا يعكسه المزاج العام وحالة الخيبة التي عانى منها كثيرين مِمن أصيبوا بحالة “الانكار” الدائمة أثناء سماعهم الخطاب، “كيف للمُخلّص أن يتخلى عنا بسهولة لإرضاء رغبات جامحة ليمين متطرف”؟!
“التقهير السياسي” وضريبة قبول الوصايات الاضطرارية
يعلمون أن القدس عصية على مغتصبيها، لكنها “بالونات تجارب” تهدف إلى “جس نبض” لفرض اِملاءات وموازنات جديدة وتفعيل قنوات الحديث الاملائي الفوقوي المغامر، فإما الإلتزام بالثوابت أو التنازل لإملاءات نتيجة التغيرات “الجيو – سياسية” والسياسية في المنطقة قهرا ورضوخا لوصايات تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب قضية شعب، لا تنتهي وستنتهي إلا كيفما هو يريد. سياسة الإما أو إما دون أن تملك حق الخيار وحق تقرير المصير، هي سياسة التقهير.
لا خيار آخر، فإما الإلتزام بالثوابت أو الإلتزام بالثوابت… والمزيد من الصمود. في وقت العالم “المجتمع الدولي” يُفضل بطبيعته الاستقرار الإقليمي.
في زمن متعدد الأقطاب لا يكفي منح طرف واحد دور الوصاية أو الرعاية، نحن جميعا ما زلنا نلعب في ملعب نظن أن الحكم الوحيد فيه هي الولايات المتحدة وتعايشنا مع هذا الوضع حتى الثمالة، لهذا جاءت خيبة الأمل كبيرة، وكما يُقال، حجم الخيبات بحجم التوقعات.
إملاءات تضع القيادة الفلسطينية أمام تحديات جسام وكبيرة في ظل اِستمرار الانحياز لطرف على حساب آخر. ضريبة فتورة القبول بالوصايات الاضطرارية!
أما الشواهد على عروبة القدس، فهي عصية على شطبها بخطاب، رغم قلبه لموازين كثيرة مُتعارف عليها للوهلة الأولى، والقدس روح فلسطين ولا فلسطين بدون روحها.