أسمتها السعودية بـ”صفقة القرن”، وهي ليست مؤامرة خفية بل هي سيناريو معلن تشارك فيه كبريات الدول العربية بكل وضوح غير ابهين إن كان الفلسطينيون راضين بها ام لا…
من اجل التوصل الى ما يرضي اسرائيل من حل للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي ومن اجل انهاء العداء بين اسرائيل وجارتها الدول العربية، يجب التغلب على عقبتين صعبتين لطالما عرقلا كل محاولات التفاوض واجهضا كل مساعي التوصل الى حل أي كان.
وبينما تستطيع اسرائيل والفلسطينيون التوصل الى تفاهمات وحلول في كل القضايا العالقة بينهما، إلا أن ثمة قضيتين حرص المفاوضون على عدم الخوض فيهما لغياب معالم أي حل يرضي الطرفين اطلاقا. الاولى هي قضية القدس والثانية هي قضية اللاجئين الفلسطينيين.
ولهذا فإن تخطي هاتين العقبتين بالنسبة لإسرائيل من شأنه ان يفتح الطريق امام الحل النهائي، وهي الفكرة التي تمكن نتنياهو من اقناع الرئيس الأمريكي ترامب وطاقمه في البيت الابيض بصوابها وبإمكانية تحقيقها.
أما القدس فالحل عبارة عن اعتراف امريكي بها عاصمة لإسرائيل، كما حدث، وفي نفس الوقت محاولة اقناع الفلسطينيين بأن بلدة ابو ديس لا تقل اهمية عن القدس، وانه يمكن تغيير اسمها من ابو ديس الى القدس، لتكون عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة بعد توسيع رقعة نفوذها الاداري.
هذا ما حاولت السعودية ان تفرضه على عباس حين استدعته قبل نحو شهر الى الرياض، وكان مرعوبا جراء ما تعرض له الحريري قبل ذلك بيومين في العاصمة السعودية. عندها أخبره ولي العهد محمد بن سلمان باسم والده وباسم الامريكيين بصراحة فجة بأن عليه القبول ببلدة أبو ديس عاصمة لفلسطين وله ان يسميها القدس إن شاء لتكون مقبولة لدى الفلسطينيين. لم يقدم عباس في الرياض أي رد على هذا المقترح المصحوب بالتهديد والوعيد، ولكنه وعد محمد بن سلمان ووالده الملك سلمان بطرح الموضوع على القيادة الفلسطينية لمناقشته. وحين عاد عباس الى رام الله واطمئن على نفسه، أعلن رفضه للمقترح السعودي القادم أساسا من واشنطن، وحرص على تسريب فحوى اجتماعاته في الرياض للصحافة كنوع من حماية الذات.
في هذه الاثناء، لم يتراجع ترامب عن دوره في هذا السيناريو بالرغم من رفض عباس المشاركة فيه، فأعلن الاربعاء المنصرم اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. فوجئت الشعوب العربية ولم يفاجأ قادتها لأنهم كانوا على علم بذلك. ما لم يكونوا على علم به ان ترامب سيعلن في ذات الوقت نواياه البدء بإجراءات نقل سفارة بلاده الى القدس، وهي على ما يبدو خطوة انتقامية من عباس لرفضه الانصياع وأداء اي دور في هذه التسوية.
الآن وبعد هذا الإعلان، ستبدأ الدول الطامعة برضا واشنطن، بنقل سفاراتها الى القدس حتى ولو استخدمت الفنادق كمقرات إقامة مؤقتة لها، فيما تتكفل الخارجية الإسرائيلية بتكاليف ذلك. فجمهورية التشيك والفلبين وتنزانيا وغانا وحتى الهند قد تنقل سفاراتها الى القدس قريبا، قبل نقل السفارة الامريكية الى هناك.
عندها يتوقع نتنياهو وترامب بأن تفرط السبحة ويعترف العالم بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل ذلك يعني أن المفاوض الاسرائيلي قد تخطى العقبة الاولى، بينما يكون المفاوض الفلسطيني محشورا في موقف لا يحسد عليه، لأن كل ما يمكنه ان يطالب به في هذه الحالة هو حق الوصول الى الاقصى وكذلك أكبر مساحة بجوار القدس لتكون عاصمة لفلسطين وليست القدس نفسها.
أما العقبة الثانية التي لن تتأخر كثيرا وستبدأ الاطراف المشاركة في وضع هذا الحل بأدائها، فهي قضية اللاجئين الفلسطينيين.
من المؤكد أن حل قضية اللاجئين ليست بنفس تعقيد قضية القدس. وإذا كانت قضية القدس بحاجة الى فرض أمر واقع واللجوء الى ليّ الاذرع من اجل فرض حلها، فإن قضية اللاجئين قابلة للحل لا سيما وان هناك ليونة عربية للتوصل الى “حل عادل” لقضية اللاجئين أعربوا عنها رسميا منذ سنين عبر “المبادرة العربية” التي لا تزال مطروحة على الطاولة، والتي لا تعني بالضرورة اعادة اللاجئين الى ديارهم وفقا لقرار 194 للأمم المتحدة، وانما البحث عن حل يرضيهم ويسقط حملهم الثقيل عن كاهل السلطة الفلسطينية لتتوقف عن طرح قضيتهم بعد الآن على طاولة المفاوضات.
الطريقة التي بدت ملامحها في الافق السياسي والتي كشف نتنياهو عن سبل تحقيقها، تمر عبر فكرة “السلام الإقليمي”. انها الفكرة التي أخذ يطرحها القادة الاسرائيليون منذ فترة ليست بعيدة وتعني في جوهرها عقد مؤتمر اقليمي في مدينة العقبة او منتجع طابا بمشاركة قادة دول الخليج ومصر والاردن وكل من تشاء من بقية الدول العربية، ووضع اسس سلام بين العرب وإسرائيل يقوم على محورين أساسيين: التطبيع الكامل مع الدول العربية خاصة الخليجية وانسحاب اسرائيل من مناطق فلسطينية محتلة عام 1967 وضمان ممرات آمنة للمؤمنين من مسلمين ومسيحيين الى أماكنهم المقدسة في المدينة، وتفكيك المستوطنات الاسرائيلية الصغيرة في الضفة الغربية والابقاء على التجمعات الاستيطانية الكبرى مقابل تعويض الفلسطينيين بأراض بديلة مساوية المساحة والقيمة قد تكون مصر طرفا في هذه المبادلة.
اما قضية اللاجئين في هذا “السلام الإقليمي”، فمن خلال انشاء صندوق مالي دولي بمشاركة دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة والدول العربية الخليجية الغنية وإسرائيل، يناط به ان يتولى تكاليف توطين اللاجئين الفلسطينيين وتجنسيهم حيث هم في الدول العربية من خلال بناء مساكن ثابتة تأويهم بتمويل من هذا الصندوق. أما من لا يريد البقاء والتجنس بجنسية الدولة التي يقيم فيها من اللاجئين، فبوسعه العودة الى الاراضي الفلسطينية والاستفادة من ذات المساعدة التي يقدمها الصندوق الدولي من اجل الاستقرار في مساكن يتم تشييدها بهذه الاموال.
تتجنب اسرائيل بهذه الطريقة تحمل مسؤولية عن “النكبة” الفلسطينية وتداعياتها، وهي تشارك في صندوق التعويضات المذكور كأي دولة متبرعة، وكأنها تؤدي دورا انسانيا فقط.
عند التغلب على عقبة القدس واللاجئين يمكن التوصل الى حل يرضي اسرائيل ويتم فرضه عنوة على الفلسطينيين بمساعدة الدول العربية خاصة الثرية منها. أما عباس وبعد تحقيق هذا الحل، فإذا أطال الله بعمره وبقي في السلطة، فسيتم التخلص منه بطريقة ما، ليحل مكانه قائد جديد يدعي بأنه استلم دولة فلسطينية على هذا النحو ولا يمكن تغيير الواقع.