دانت معظم الهيئات القيادية الفلسطينية قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مطلع الأسبوع الجاري بالاعتداء على بعض المشاركين في مسيرة “أحد الشعانين” التقليدية في مدينة القدس . وجاء في الأخبار أنّ قوات شرطة الاحتلال حاولت، في منطقة باب الأسباط، منع بعض الشباب المشاركين من رفع علم فلسطين، في حين سمحت لمجموعات حجّاج أجانب برفع أعلام دولهم.
وأشار أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، د.صائب عريقات في معرض إدانته الاعتداء على الشبان وعلى العائلات المسيحية؛ إلى أنّ : “استفزاز قوات الاحتلال ومنعها لرفع العلم الفلسطيني في العاصمة الفلسطينية ذات السيادة، والردّ على الهتافات والصلوات بالاعتداء بالضرب على المشاركين الآمنين ؛ يؤكد سياسة الاحتلال الرافضة لكون مدينة القدس مدينة حرة ومقدسة ومفتوحة للديانات الثلاث”.
القضية صليب وعلم
هناك محاولة فلسطينية لتحميل الحادث معاني لا يعكسها، على الرغم من خطورته كما سأبين لاحقًا؛ فسلطات الاحتلال تتصدّى منذ أعوام عديدة لمحاولات رفع العلم الفلسطيني في احتفالات شعبية مختلفة؛ وتحظر إقامة أي نشاط في حدود مدينة القدس الشرقية، كما تعرفّها السياسة الإسرائيلية، إذا شارك فيه ممثلون عن السلطة أو تحت مظلتها أو رعايتها.
لقد بدأت إسرائيل بتنفيذ هذه السياسة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وصعّدتها بعد عام الألفين، خاصة بعد رحيل فيصل الحسيني؛ حين أغلقت “بيت الشرق” ومعه عشرات الجمعيات والمؤسسات المدنية الفلسطينية، وذلك من خلال اعتمادها على قانون تطبيق اتفاقيات أوسلو، الذي شرّعته في العام ١٩٩٧ خصيصًا لهذه الغايات، وحظرت بموجبه نشاط كل جمعية أو مؤسسة فلسطينية داخل مدينة القدس إذا ثبت أن لها أي نوع من العلاقة أو الارتباط مع منظمة التحرير أو مع السلطة الفلسطينية.
في الواقع رضخت الإرادة الفلسطينية، الرسمية والشعبية، لإملاءات الاحتلال الإسرائيلي، وما بدأ كاختبار للجاهزية الفلسطينية المقاوِمة انتهى كواحد من أهم نجاحات السياسة الإسرائيلية في القضاء على مفاعلات تحصين وتعزيز هوية المقدسيين السياسية/الوطنية، وسلخ الصراع عن جبهته العريضة وحصره في بعده الديني الضيق ومحوَرته حول ماذا قالت السماء ولمَن أعطت وعودها : لليهود أم للمسيحيين أم للمسلمين!
ومن هذه الرؤية يجب تحميل اعتداء قوات الأمن الإسرائيلية على الشباب المسيحي أثناء تقدُّم المحتفلين نحو طريق الآلام، ووسط تلاوة الهتافات الكنسية والصلوات، دلالات أبعد من استهداف العلم ؛ ومن أهمّها، في هذه الحادثة، هو إنكار “أسياد” عناصر الشرطة المعتدين لوجود علاقة مسيحية مشروعة مع المدينة، بمفهومها الأشمل، لأن التهجّم على مسيرة تتقدّمها الصلبان والكهنة، وفي طليعتهم ممثل الفاتيكان، يتعدّى كونه برهانًا على عدم اعتراف إسرائيل “بالقدس كمدينة حرة ومقدسة ومفتوحة للأديان الثلاث” ؛ ويؤكد موقف غلاة المتطرفين المتدينيين اليهود وحلفائهم على أن القدس لهم وحدهم ولا يوجد فيها مكان للآخرين، كل الآخرين.
أحد الشعانين
لا أعرف كم من العرب يهمّهم ماذا يكون أحد الشعانين هذا في العقيدة المسيحية وما علاقته بالقدس وبتاريخ روابط المسيحيين العرب بالمدينة وأبعادها، ولست متأكدًا كم انكشف منهم على الموروث الثقافي الذي خلّد، في القصائد وغيرها، مشاعر تلك القبائل العربية المسيحية تجاه هذا التراب ، سواء في آحاد شعانينه أو في أيام الفصح التي تلتها؛ فما حفظ من هذا الموروث في خزائن الأدب يزخر بقصائد لعشرات شعراء القبائل العربية المسيحية الذين وصفوا تفاصيل تلك الأيام وتداعياتها. ويكفي أن نستذكر أحد فحولهم كالنابغة الذبياني، وهو ليس وحيدًا، حين أكد لنا، رغم” ليله بطيء الكواكب” أن أباءه وأجداده كانوا “يحيون بالريحان يوم السباسب” وهو عيد الشعانين عند العرب .
لم يعنينا هذا العيد إلا عندما كنا أطفالًا. كنا نلبس جديدنا ونحمل مع “شعنينتنا” التي هي عبارة عن شمعة يتفاوت طولها من بيت لآخر ومن ذوق لذوق، وكان أهلونا يتفنّون بتزيينها بالورود وبأغصان الزيتون وبسعف النخيل الصغيرة.
فالشعانين هو نهاية فرح المؤمنين ، في دورة أبدية، وبداية أسبوع الآلام وجمعته العظيمة، ساعة سيصلب “فاديهم”، في كل عام، على أصوات تصرخ “أصلبه، أصلبه ليس لنا ملكٌ إلا قيصر”. إنه، في الواقع، فصل في سيرة فلسطين التي لم تنته.
لن يقبل يهودي متزمّت رسالة الشعانين المسيحية ولا مغازي الفصح كما أوردتها الكتب؛ فالمسيحيون المتدينون يؤمنون أنّ المسيح دخل القدس راكبًا على حمار تحقيقًا لنبوءة نبيّ يهودي “صغير” يدعى زكريا بن برخيا الذي قال: “لا تخافي يا ابنة صهيون، فان ملكك قادم إليك راكبًا على جحش ابن اتان” وذلك في إشارة لتواضع شخصه وإلى أنه الملك القادم. وعندما وصل المسيح مشارف القدس استقبلته الجموع كما يُستقبل الملوك وهتفت أمامه ” هوشعنا/خلّصنا مبارك الآتي باسم الرب..” وهذا ما أغاظ قادة يهود المدينة وحكامها.
القدس تفتش عن “مسيحها”
لقد عبّرت في الماضي عن قناعتي بأن فلسطين ستكون الخاسرة الكبرى من تحويل الصراع على القدس وحصره في بعده الديني فقط.
ويبدو أننا على أعتاب تحقيق هذه الخسارة. فلقد تلاقت إرادات ثلاثة عوامل متناقضة لكنها فاعلة بنفس الاتجاه ومن أجل ذات الهدف؛ من جهة نجح التيار المتديّن الصهيوني بموضعة قضية القدس (وكل أرض فلسطين عمليًا) تحت قبة الكنيست والسماء وإرادتها المطلقة، ومن جهة أخرى تحاول التيارات الإسلامية السياسية فرض موقفها القاضي بجعل القدس عاصمة للخلافة الإسلامية بعيدًا عن مقتضيات مشروع التحرر الفلسطيني الوطني ؛ وإلى جانب ذينك الموقفين نجد أن السيد ترامب ومسيحيين مثله قد “برشتوا” علينا مؤخرًا موقفًا معلبًا برؤية “مسيحية” هجينة أفضت إلى تسليمه مفاتيح القدس لإسرائيل وذلك من منطلقات إيمانية مشوهة.
قد يكون ما شاهدناه عند باب الأسباط مجرد مفارقة قاسية وتذكار، فلقد كان ذلك الأحد البعيد فاتحة لأهم الأسابيع في تاريخ البشرية وأكثرها التباسًا، وأخالني أن عصي شرطة إسرائيل وهي تنهال على المصلين تذكّرنا، بعد ألفي عام ، بأن القدس ما زالت تبكي وتصرخ من أجل خلاص أبنائها وخلاصها؛ كما جاء ، حسب انجيل التلميذ “لوقا” في خطبة المسيح قبل صلبه الذي قال: ” إنكِ لو علمتِ أنت أيضًا، حتى في يومك هذا ما هو لسلامك! ولكن الآن أُخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك من كل جهة، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنك لم تعرفي زمانَ افتقادك”.
ما زالت نهاية ذلك الأسبوع الصاخب موضع خلاف بين الأمم؛ لكن المسيحيين يؤمنون بأن “مسيحهم” صلب وقام وصعد إلى السماء؛ وتبقى هذه في حكم العقيدة التي يؤمن بها من يشاء ولا يؤمن من يشاء؛ أما الحقيقة التي لا نزاع حولها هي أن مسيح “ترامب” ومن “يؤمن” مثله هو ليس مسيح “النابغة الذبياني” ولا مسيح أكثرية أحفاده العرب، وهو ليس مسيح جميع من يصلون في كنائسهم من أجل فلسطين ولا مَن يصرخون من أجل أهلها وسلامة قدسها، ويدعمون قضيتها في العالم من على جميع المنابر.
فعسى أن تكون العبرة في هذه الأيام الفصحية، أن للقدس أعداء يتوحدون ضدها حسب مصالحهم وليس بسبب دياناتهم، ولها، في المقابل، حلفاء وأصدقاء وبينهم من يحملون صليبهم ويسعون في سبيل حريتها ومن أجل “قيامتها” وانعتاقها من نير احتلال “قيصر”.