أحمد سعدات، صوت وصدى- بقلم: جواد بولس
قبل عشرة أعوام حكمت محكمة الاحتلال العسكرية الإسرائيلية على أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السيد أحمد سعدات بالسجن الفعلي لمدة ثلاثين عامًا وذلك بعد إدانته بتهم أمنية منها “العضوية في تنظيم محظور” والقيام بـ “نشاطات معادية”.
اعتقلت قوات الامن الإسرائيلية سعدات في العام 2006 بعد اقتحام عناصرها سجنه في مدينة أريحا الفلسطينية حيث كان محتجزًا مع أسرى فلسطينيين آخرين تحت حراسة جنود أمريكيين وبريطانيين كانوا قد انسحبوا من محيط السجن فيما أسماها سعدات لاحقًا عملية تسليم تواطأت فيها جهات متعددة.
شكّلت محكمة سعدات علامة فارقة في تاريخ القضاء العسكري الإسرائيلي وذلك ليس بسبب ظروف اختطافه واعتقاله فحسب، انما لكونه أمينًا عامًا لفصيل فلسطيني عريق له في النضال الوطني سجل طويل وفي الساحة الفلسطينية مكانة لافتة؛ وكذلك بسبب موقفه المعلن حيال اجراءات المحكمة ورفضه الصارم الاعتراف بشرعيتها والتعاطي معها، أو كما جاء على لسانه عندما واجه القضاة قائلا: “أنا لا أقف لأدافع عن نفسي أمام محكمتكم فقد سبق وأكدت أنني لا أعترف بشرعية هذه المحكمة باعتبارها امتدادًا للاحتلال غير الشرعي وفق القانون الدولي اضافة لمشروعية حق شعبنا في مقاومة الاحتلال وهذا الموقف أعيد التأكيد عليه”.
صدى القيود
في الواقع استذكر تلك التفاصيل اليوم بعد مراجعتي لكتاب ألّفه سعدات في سجنه تحت عنوان “صدى القيد” والذي سيشهره رفاقه في الأسواق عمّا قريب. يتعرض سعدات في نصوص بسيطة ومكتنزة ومباشرة لقضية عزل الأسرى السياسيين داخل سجون الاحتلال ويقول في خاتمته “هذا عرض متواضع لسياسة العزل الانفرادي وتجلياتها وأبعادها في سجل الإرهاب الصهيوني وهو لا يتناول هذه المسألة بتفاصيلها بقدر ما يركز على أبعادها الجوهرية لذا فهي ليست تأريخًا أو توثيقًا لسياق هذه الممارسة العنصرية وهي ليست، قطعًا، سيرة ذاتية لكاتبها أو لغيره من الأسماء والرموز الواردة فيها” .
سوف يجد القارئ في فصول الكتاب صورًا ، موجعة أحيانًا ومفرحة في أحيان أخرى، لكنها تعكس بمجملها مشاهد عديدة لعلاقة الاشتباك والمواجهة الفلسطينية الحقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي، فليس كالسجن ساحة شهدت وتشهد على تفاعلات هذا الصراع الوجودي الدائم وشكّلت وتشكّل، في نفس الوقت، ما يشبه المختبر الذي تصنّع بين ظهرانية مقومات الحياة الكريمة أو، في المقابل، مسبّبات الهزيمة والمذلة.
يسلط الكاتب أضواءه على قضية عزل الأسرى في سجون الاحتلال ويتناولها من جوانب مختلفة مؤكدًا أنها من أبشع الممارسات ومن أخطر التجارب التي يتعرض لها الأسير .
فسلخ الأسير عن اخوانه الأسرى، بعد اقتلاعه من بين أفراد أسرته وأبناء مجتمعه، هي محاولة لسحق روحه ولكسره كي يتحول إلى مجرد كائن مهزوم يعيش على ما يحدده له السجان ويستجديه من أجل ما هو أكثر.
يستعرض سعدات في الكتاب محطات في تاريخ كفاح أبناء الحركة الأسيرة ويضع الاصبع، كما يليق بقائد وطني، بجرأة ومسؤولية، على بواعث الصمود والى جانبها على بواطن الضعف والفشل، ويشير إلى قائمة من المخاطر وإلى عدة ظواهر وعناصر، إن بقيت على حالها ستؤذي القدرة النضالية للحركة الأسيرة وستؤدي حتمًا إلى الحاق الخسائر بمكتسباتها وبمناعتها وبآمالها.
رافقني وأنا أقرأ الكتاب شعور من الأسى، فلقد نبشت سطوره رفوف ذاكرتي واستحضرت بعض فصوله تفاصيل تجارب تراجيدية موجعة لكثير من الأسماء المذكورة، سواء من رحلوا أو من لا زالوا على قيد الحياة، ومثلها لخوارط المواقع التي تعرفت عليها خلال رحلة عملي منذ حوالي أربعة عقود؛ ولكنني حزنت أكثر لأن معظم تلك القصص اهملت ولم تحظ برعاية لائقة ولا بتوثيق مناسب.
ففي الكتاب إشارات هامة لرزمة من العناوين التي لا تعرفها أجيال اليوم ولن تعرفها أجيال المستقبل لأنها أصبحت مجرد أوشام على ذاكرة مَن واكبها أو طنينًا في أذني من سمعها أو نهفات يرددونها في الدواوين ساعة يتندرون حول ذلك “الزمن الذهبي”.
فمن يعرف اليوم عن بداية عمليات الابعاد التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي في سنواته الأولى ضد مئات الفلسطينيين وبضمنهم شخصيات قيادية مرموقة كان لابعادهم أثرًا كبيرًا على وتيرة العمل الوطني المقاوم؟
وماذا يعرفون اليوم عمّن كانوا يسمّون “بأسرى الدوريات” وماذا حل بعناصرها وكيف عاشوا أو ماتوا؟
ومن يعرف اليوم شهداء الحركة الأسيرة الذين قضوا وهم في أقبية التحقيق أو خلال اطعامهم القسري؟ ففي الكتاب قائمة باثنين وخمسين اسمًا، يبدأها الشهيد، ابن نابلس، يوسف الجبالي، الذي استشهد خلال تعذيبه في يوم ١٩٦٨/١/٤ وينهيها ابن الخليل الشهيد رائد عبد السلام الجعبري الذي استشهد في مستشفى “سوروكا” بتاريخ ٢٠١٤/٩/٩.
ومن يعرف اليوم خلفيات وتداعيات اضرابات الحركة الأسيرة التي اجبرت سلطات الاحتلال على الاعتراف بمكانة هذه الحركة وبتميّزها وأدت الى تحصيلها مكاسب وفيرة يخشى الكاتب على اضاعتها، كما ذكرنا؟
“قدر الانسان أن يكون حرا”
سيكون اصدار الكتاب قريبًا بمثابة هدية ثمينة تتزامن “ويوم الأسير الفلسطيني” وربما مهمازًا قد يستثير بعض ذوي الشأن وأولي الأمر ويحثهم على متابعة ما جاء فيه، فالكاتب رغم انتمائه العقائدي ومكانته في تنظيمه حاول أن يستعرض صورة جامعة شاملة لأوضاع يعايشها، وحتى عندما يعرّج على محطة ما ويعالجها بروح ولغة “جبهوية” لم يتوقف عندها فقط ولم “يرحم” بعدها حتى ذوي قرباه.
ففي الفصل الأخير قبل الخاتمة يكتب عن “دروس مستخلصة من تجربة العزل” وهو ، على قصره، يعد فصلًا لافتًا وأهمه بنظري الدرس الأول الذي يؤكد فيه على “ضرورة إعادة الاعتبار لتماسك الحركة الأسيرة ولدورها الكفاحي ولصلابة منظماتها؛ فقد مضت سنوات كانت فيها أقل حقوقًا ومكتسبات لكنها أكثر جبروتاً وعزة وعنفوانًا “.
في تلك السنوات كانت مديرية السجون تحسب لردة فعل الأسرى ألف حساب أما اليوم فكثرت “حسابات” الأسرى وقلت هيبتهم وأرصدتهم عند سجانيهم.
كل الدروس الواردة مهمة، فوحدة الأسرى هي السياج الواقي لصون كرامتهم وحقوقهم، ومقاطعة المحاكم الصورية في قضايا المعزولين ضرورية لنزع الغطاء القانوني عن ممارسات الاحتلال، ويبقى الوعي بوجود الثقوب في جسم السفينة هو أهمها ومرساة نجاتها .
لقد تخطت معالجة سعدات قضية العزل ولامس في تعدد مواضيعه واقع الحركة الأسيرة ، في ماضيها وحاضرها، واستشرفت مواقفه مستقبلًا يتوقعه كفيلًا بتأمين حرية الأسرى أو على الأقل ضمانةً لعيشهم بكرامة وعزة وعنفوانا؛ وهو من أجل ذلك يعلن انه كتب ليسلط ” أضواء كاشفة على مستوى التقصير الشامل من كل الجهات والمستويات الرسمية والشعبية والقانونية المحلية والدولية في توفير الحماية والغطاء للأسرى”.
حبس المسيح، مفارقة مقدسية
قد تكون كتابتي عن هذا الموضوع في يوم “الجمعة العظيمة” محض مفارقة شقية، ففي مثل هذا اليوم قبل أكثر من ألفي عام أمضى المسيح ليلته الأخيرة أسير ًا معزولًا في سجنه الذي ما زال موجودًا في القدس.
ليست تداعيات “الفصح” من شأننا هنا، لكنها تذكرنا بحكمة السماء التي تؤكد على أن قدر الانسان أن يكون حرًا مهما غلا ثمن حريته؛ وقد نجد في أيام الفصح عبرة ومعنى، لأن المسيح، حسب ما جاء في الكتب، تجسّد وحمل صليبه وتعذب في طريق الآلام الطويل كي يعتق البشر ويرشدهم نحو الحرية والخلاص، فالحرية سكنت وتسكن دومًا في قلب الانسان لكنها لا تليق الا بالاقوياء.
فالى جميع الأسرى دعوتي أن تبقوا على رجاء ووعد وأمل حتى الحريّة.