نزار الضحية رقم 14- بقلم جواد بولس
ولد نزار جهشان قبل 56 عامًا في الناصرة، وفيها قتل قبل شهر برصاصة غادرة. عرفته قبل عقود حين كان في بلادي معنى للشهامة وللشجاعة وللحب وللشرف وللاباء وللشفقة وللوفاء.. رحل تاركًا فيها كثيرًا من الدهشة والغصّة.
سجلّ موجع من العجز والضحايا
في تصريحات أطلقها، قبل أيام معدودة، الشيخ كامل ريان رئيس مركز ” أمان – المركز العربي للمجتمع الآمن” حمل فيها على ظاهرة العنف الحارقة وأشار على أنه “بوفاة الشاب نزار جهشان ابن الناصرة الأبيّة يصل عدد ضحايا هذا الارهاب الذي ما زال يجتاح مدننا وقرانا العربية في الداخل منذ العام 2000 إلى 1260 ضحية ، وجهشان هو الضحية رقم 14 منذ بداية عام 2018 ”.
وأكد الشيخ ريّان على أن المسؤولية في مواجهة آفة الاغتيالات وعمليات اطلاق النار شبه اليومية في مواقعنا، تقع في الأساس على الدولة وشرطتها وسائر مؤسّساتها الأمنية ولكن ليس عليها فقط؛ ودعا إلى ضرورة تعريف هذه الظاهرة على أنها ضرب من ضروب الارهاب الذي يجب “أن يتعامل معها الجميع بأدوات استثنائية”.
جاءت تصريحات الشيخ وغيره من القياديّين، بعد أن اصبحت مدننا وقرانا العربية تعيش حالة من الخوف الحقيقي، التي أدّت عمليًا إلى تراجع معظم قوى المجتمع عن تأدية أدوراها المأمولة، وإلى انسحاب الأفراد من الحيّزات العامة، وذلك من أجل المحافظة على مواقعهم وعلى سلامتهم وسلامة أفراد عائلاتهم الشخصية.
هنالك ظاهرة “نزوح اجتماعي” شامل إلى تحت سقوف “البيوت” أو “خيم العائلات” أو ما يعادلها من ملاجيء أوهمت الناس على أنها أماكن وأحضان توفّر لهم النجاة ؛ فليس مثل ” كن مع السبع حتى لو أكلك” أو “امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة” أو “حايد عن ظهري بسيطة” أو ” السكوت من ذهب” وغيرها من أمثال السلامة الملتبِسة التي عرفتها الصحراء وأورثتها غزوات أجدادنا العرب وأيامهم الدامية.
خوف الناس ناتج عن حالة عجز اجتماعي عام وطاغٍ ، دفعت فئات واسعة من المجتمع الى استشعار خطر سقوط حماة ” القيم السامية” وافساح الساحات لقوى الشر والجريمة والقتلة المأجورين وفوّهات مسدساتهم.
من الموجع أن نتابع مسلسلات الرعب وهي تُستعرض في شوارعنا ونحن نتمنّى، من بيوتنا وأعمالنا، أن يبقى الرصاص بعيدًا عن جباهنا وكلنا نعلم أنها مجرد أمنيات للعاجزين و”هتورات” للسحرة؛ فنزار جهشان عاد من غربته لزيارة ناصرته وأحبائه فقتله الرصاص وهو على حين قهوة ولقاء مع صديق في مطعم.
لن تجدوا أحدًا لا يؤكد على أن استشراس ظواهر العنف وانتشار عمليات القتل بين المواطنين العرب في إسرائيل يشكل الخطر الوجودي الأكبر والتحدّي الأهم لقدرة المجتمع على البقاء وممارسة حياته الطبيعية.
هذا ما قاله أيضًا السيد محمد بركة في مقابلة هامة أجراها معه الاعلامي نادر أبو تامر في إذاعة “مكان” قبل أيام ، أكّد فيها، من موقعه كرئيس “للجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في أسرائيل” على أنه يضع قضية العنف المتفاقم بيننا في رأس سلم اهتماماته، فبدون مواجهتها أولًا لن تنجح الجماهير العربية في معالجة سائر قضاياها الحياتية والسياسية المصيرية، كما صرح وأكد.
هل ممكن فعلًا مواجهة هذه الظاهرة الآفة؟ هكذا في كل مرة أكتب عنها تعتريني الحيرة ويحرجني السؤال.
وإذا كانت الاجابة بنعم، ويجب أن تكون كذلك، فلماذا لم تنجح المواجهة حتى الآن ؟
قد نجد العلة فيما قاله الشيخ ريان، إذ لا يمكن التصدي لظاهرة بهذا الحجم وبهذه القوة والغنى في تنوع مصادر توليدها، إلا أذا تضافرت جهود ثلاثة، وكنت قد كتبت عنها مرارًا في مقالات سابقة.
فمن دون إقحام الدولة ومحاولة إجبارها، ولو بشكل جزئي، على تغيير سياساتها والتصدي لشلالات الدم المسفوك في شوارع مدننا وقرانا ستبقى كل المحاولات عاقرة.
هذا هو أول الشروط وأخطرها، لكنه لن يتحقق إلا إذا سانده استعداد حقيقي من جانب”السلطة المحلية” ورافقته، على الضفة الأخرى، جهود واضحة من قبل “السلطة القيادية الشرعية” الأولى .
فهل سيتحقق هذا الميلاد ؟
الدولة لوحدها ،كما يبدو، غير معنية بإخماد حرائق المسدسات وإنما بإذكاء نيران الخوف والتفرقة وبتنامي القلق في صدور المواطنين العرب في إسرائيل، لكننا سنجد في نفس الوقت أنّ دور معظم السلطات المحلية في التصدي للجريمة معدوم أو غائب، لا بل قد تكون بعض تلك السلطات، كما كتبنا قبل سنوات، نتاجاتٍ لتلك السياسات ومواليدَ في مذاود النار والدخان ولقد تحولت، بعد تمكنها، إلى أهم مفاعيلها المباشرة وغير المباشرة.
في مقابل ذلك سنجد أن رئيس “السلطة العربية القيادية” الأولى معني في التصدي لظاهرة العنف، وهو يملك التجربة الواسعة والإرادة والفكر للنجاح في تلك المهمة.
لكنه قد ورث حالة عصيّة وجسمًا مثقوبًا ومهلهلًا يشكّل بعض أعضائه جزءًا من حواضن العنف ويُغنون فضاءاته المتمادية، مع هذا يجب على الجميع أن يساندوا مساعيه في هذا الاتجاه.
نحن على أعتاب انتخابات للسلطات المحلية. إنها مرحلة حاسمة ستحدّد نتائجها معالم وقسمات وجود الأقلية العربية في اسرائيل، التي تسعى، كما لاحظنا في السنوات الماضية، إلى بناء قيادات محلية بديلة للمؤسسات الشرعية الناشطة بين المواطنين العرب وسيكون من مهامها تغيير معادلة المواطنة ومفاهيمها بشكل “ثوري” وباتجاه تكريس سياسة التدجين وأخواتها.
تقترب الانتخابات وأخشى من أنّ ما كان هو ما سيكون. سينتخب رؤساء مجالس وأعضاء يمثلون العائلات وتحالفات المصالح الفاسدة وأحلاف الدم والمال والقوة، وستتفاقم، بالتالي، أزمات مجتمعاتنا وسيعلو صوت المسدس أكثر وستتكاثر طوابير ” الڤيسبات” ولابسو الخوذات السوداء، وستفترش الدموع مضاجع أمهات جدد وأعداد الأرامل ستزداد وستصل أصوات القلوب إلى فوهات الحناجر.
ألم أقل قبل انقضاء سنوات من الوجع وكنا نقف على ذلك المنزلق الخطير أن “رئيس سلطة ينتخب على ظهر صفقات مشبوهة ستبقى هذه الصفقات نيرًا في رقبته وستجعله عاجزًا على التصدي لتلك الظواهر التي تنهش أجساد قرانا وتقض مضاجع أهلينا؛
ورئيس سلطة يستعين بحاشية من البلطجية، قبل وخلال معركته الانتخابية، يكون شريكًا في المسؤولية عن أعمال هؤلاء البلطجية العابثين في شوارع بلدته والمعتدين على حرمات بيوتها وسكانها؛
ورئيس يمارس سياسة المحسوبيات والتفرقة “العنصرية” ضد أبناء البلدة الواحدة لا يستطيع أن يدّعي جدية عندما يقارع سياسة دولة شرطتها العنصرية، ففي النهاية هي نفس الشرطة التي تغضّ الطرف عن موبقاته” .
لا للعنف ، لا للشرطة!
مضى عقد وما زلنا نتدحرج على ذلك المنحدر فلا الاستغاثة نفعت ولا التلويم أسعف. جاءت ” القائمة المشتركة” ولم تضف “كواسر رصاص” في بلداتنا، وأخالني حتى بوجودها اننا نقترب من نهاية المنزلق.
فالدولة مرتاحة لما يجري بيننا، وسلطاتنا المحلية تتسكع خارج اللعبة وكجزء منها أحيانًا . القيادات السياسية والدينية تراوح بين إقصاء مفروض واقصاء مرغوب ونحن، الشعب، نعيش بين خوفين وخوف، وكأننا ما زلنا كما كتبنا في الماضي، رهائن لهدنة خبيثة بين يدي الدولة التي تعامل مواطنيها العرب كالقذى العالق على أهدابها، فإن شاءت تتحمله أو تهمله وإن شاءت تزيله؛ وبين قياديين عرب كثيرين يؤمنون بعقيدة انفصالية مطلقة عن الدولة ويدارون مواقفهم بحكمة التقية والتستر ، فهم يؤمنون بأن إسرائيل ليس أكثر من كيان هش وعثرة عابرة أو ندبة على كف الزمن ولذلك فهي لن تصمد في وجه الرياح وحجارة السماء الآتية حتماً.
هكذا إذن، يعيش مجتمعنا بين نارين؛ وأوضاعه، رغم الضحايا وقساوة الأثمان، تتقهقر، وحساسينه ما زالت تصطادها “نيرانه المحلية”. فإلى متى ؟