تصدّرت مشاهد اعتداء أفراد شرطة إسرائيل في حيفا على المتظاهرين المتضامنين مع غزة عناوين النشرات الاخبارية، خاصة بعد انتشار أخبار عن إصابة عدد من المشاركين الذين اعتقلتهم قوات الأمن، وكان عددهم تسعة عشر معتقلًا، ونقل بعضهم إلى المستشفيات.
لم تترك ردة الفعل البوليسية الوحشية مجالًا للشك بأنّ القرار بقمع مظاهرات التضامن مع قطاع غزة، والانقضاض على المشاركين فيها من العرب واليهود الديمقراطيين، كان مبيتًا ومتعمدًا، ورمى إلى خلق أجواء من الترهيب وردع المواطنين بشكل عام، وفي حيفا تحديدًا، لأنها ما زالت المدينة الوحيدة تقريبًا التي تتحلّى فضاءاتها العامة ببعض من “رجاحة العقل”، وتتيح رئاتها فرصًا معقولة للاحتجاجات العربية والعربية -اليهودية ضد سياسات الحكومة الإسرائيلية، كما حصل في الأسبوع المنصرم.
كان وقع تسرّب النبأ حول إصابة بعض المحتجزين عند الشرطة مثيرًا ومستفزًا وصارت التفاصيل مقلقة مع تأكيد كسر ساق وركبة مدير مركز “مساواة” لحقوق المواطنين العرب في إسرائيل السيد جعفر فرح أثناء اعتقاله والتحقيق معه والذي صارت صورته وهو يدخل إلى قاعة المحكمة متكئًا على عكازتين وبساق مكسورة مجبّرة، أيقونة وحديث الصحافة والدواوين الطاغي.
حاولت الشرطة تمديد توقيف جميع المعتقلين؛ وفي سبيل ذلك قام مندوبوها، أمام القاضي، بقلب المعطيات واغتصاب الحقيقة وتشويهها، لكنهم، رغم وقاحتهم، فشلوا، فصوت الكرمل ونداء الحق كانا أقوى من “أزيز” كذبهم ونيرانه.
لم تنته القصة بعد قرار القاضي بالافراج عن جميع المعتقلين، وكانوا سبعة عشر عربيًا ويهوديين اثنين، وحّدتهم أصفادهم في السجن، لكنهم سرعان ما عادوا عربًا إلى خيامهم ليجدوا أرواحهم مرهونة من جديد “للغرانيق” وللريح، وليستقبلوا كأبناء لقبائل بعضهم يدين ل”هُذَل” ويصلي غيرهم “للعُزى” ويعبد أبناء الصحاري “ذو الشرى”.
لقد تطرقت افتتاحية جريدة “الاتحاد” الحيفاوية يوم الحادي والعشرين من الشهر الجاري إلى خطورة ما واكب النشاطات الميدانية من “مؤثرات” وتعقيبات شعبوية فكتب محررها: “أمام هذا المشهد الذي يهددنا جميعا ويهدد كل من يرفع صوته ضد حكومة الاحتلال وجرائمها، فإنّ حال شبكات التواصل كان في اتجاه آخر، في اتجاه التهجمات الحزبية، التي وصلت إلى مستويات أثارت الامتعاض لدى الجمهور الواسع ، خاصة حينما عمل مارقون على تأجيج الحالة، كما هو دورهم المألوف على مر السنين”.
قد تكون “الاتحاد”، وهي جريدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، مصيبة في وصفها لوجود امتعاض بين صفوف الجماهير العريضة, وقد تكون دقيقة في ربطها ذلك العزوف الشعبي الملموس بسوء العلاقات القائمة بين التيارات السياسية الأساسية المنظّمة والفاعلة بين المواطنين العرب في إسرائيل وهي: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وما تمثله من فكر يعتمد تاريخيًا على كونهم أصحاب الأرض وعلى مواطنتهم ومكانتهم في الدولة كمصدر لشرعية حقوقهم الجماعية/القومية والفردية/ المدنية، وفي مقابلهم أصحاب التيار القومي، على أطيافه، المؤمنين بضرورة “إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني..وطرح مشروع سياسي يرمي إلى تفكيك منظومة الاستعمار الإسرائيلية وإعادة الصراع إلى مساره التحرري” وذلك كما كتب د. إمطانس شحادة، سكرتير عام حزب التجمع الوطني، في مقال له بعنوان “مسيرات العودة والعودة إلى المربع الأول” نشره في موقع الحزب، عرب 48 ، يوم الثلاثاء الفائت. وأخيرًا ، وعلى اختلاف جذري مع كليهما، يقف أصحاب الفكر الإسلامي وراء مشروعهم القاضي بوجوب إقامة دولة الخلافة، وما يرافق ذلك من ضرورات وتوابع.
لقد أشارت صحيفة “الاتحاد” في افتتاحيتها المذكورة إلى أنّ الهجوم على الحزب الشيوعي وعلى الجبهة الديمقراطية لم يبدأ في اليومين الأخيرين “بل هو قائم منذ مدة طويلة وأيضًا في الأوقات التي لم يكن لها أي خلفية سياسية أو حزبية ، فقط لغرض السب والشتم”.
وللتاريخ أذكّر أننا شهدنا جولة صراع شبيهة بما شهدناه في هذه الأيام وعلى نفس الخلفية، وذلك على أثر انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في العام 2014 في ما أسمته وقتها إسرائيل بعملية “الجرف الصامد” .
في حينه، وبتزامن مع وجود وفد القيادات الغزية في القاهرة، وبهدف دعم مطالبه وشروطه لاستمرار الهدنة مع إسرائيل؛ أصدرت “اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل” من خلال رئيسها في ذلك الوقت السيد محمد زيدان، بيانًا بعنوان “تأكيد موقف وتجديد العهد” وذلك رغم رفض السيد محمد بركة التوقيع عليه بصفته ممثلًا عن الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي.
لقد دافع بركة عن موقفه رغم التحريض والتقريع ضده؛ وعلل رفض الجبهة والحزب الشيوعي بوجود نواقص جوهرية لا يمكن إغفالها، كان أهمها متعلقًا بمطالب خاصة بنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، لا سيما في ظروف تنامي الفاشية والعنصرية في الدولة. لقد نوّه بركة إلى خطورة إسقاط هذه العناصر الهامة من بيان يتحدث باسم الجماهير ونوّه كذلك إلى تغييب دور ومكانة منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
لم يتغير شيء رغم مرور السنين فالخلافات الجوهرية القائمة بين الفرقاء أعمق من كونها عرضية وأقوى من تدخل يد المفارقة والصدف. فما كان يعتبر نضالًا عند “واو” اعتبرته “الضاد” تخاذلًا وتساوقًا مع أنفاس الدولة، وما كان مأثرة صمود وبقاء تحوّل تحت مباضع المزايدين إلى مثارات للتجريح وللتقريع.
لم يتوقف النزيف، ولا يوجد حد للاستهتار وللتحليق؛ فحتى منظر ساق جعفر المكسورة أمسى، عند بعض مريضي النفوس، دعاءً وأمنية في أفواه استكثرت عليه الجبس ولقاءً في صحيفة أو مقابلة على الشاشات.
سيستمر بعد حيفا “الإخوة الأعداء” في القتال كما كان قبلها، وسيتبارون حول من كان صاحب “الغزوة” متناسين أنّ عروسهم مسبيّة في حضن غازيها؛ وسيختلفون ما إذا كان يعتبر الحديث عن قمع الشرطة في حيفا خذلانًا وخيانة وحرامًا أو انه مباح حتى في حضرة غزة ودمائها، لأننا في النهاية نواجه، كل من موقعه، نفس الشرطة والعقيدة والجيش الذي حوّل رصاصه وعصيّه “شعبي حزبًا والكل رفيق” .
على ظهر حيفا يريد البعض العودة “إلى المربع الأول” ويدعو في سبيل ذلك الى “تفكيك منظومة الاستعمار الاسرائيلية وإعادة الصراع إلى مساره التحرري” ! ويرى الأخر وجوب فتحها، فيدعو من أجلها إلى النفير وكأنه يعيش في دائرة مركزها في وسط السماء. أما الثالث فيستنبئ “سوَر” الهجيج فيصرّ أنها معركة مثلثة الأضلع، أهمها الفلسطينيون وقائماهُ من يقف معهم من اليهود وأحرار العالم.
هكذا يتقاتل الدعاة والنحاة والرعاة، في حين لا تحب عامة الناس التعقيد وتكره الهندسة، فيؤثر معظمهم فصول”الهيبة” ومنهم من لا ينامون في ليلة “الكلاسيكو” ويشاركون “الافرنج” حروب البارسا والريال.. وحيفا “كأحمدها” ستنتظر ليلها الطويل إلى أن يبعث العرب !
وأخيرًا ، غزة ما زالت تغفو على كتف بحرها وتقاوم وتدفع الثمن، وتفيق كل يوم “حيفانا” التي “من هنا بدأت” على صدى كرملها وعلى غصة الندى فوق جفونها.
حيفا السراب عيّافة الزبد وولّادة المنى، كشافة المعوج والمستور والمشتهى، وهي للكذب ضرة، في “واديها” يحلم الجمال وترقص على أهدابها الحروف والإيائل.
لقد سألنا في حينه “نحن مع غزة ولكن من معنا”؟ فحيفا التي يحب أولادها ظلالها ويتناسلون بين أطلالها، ستبقى، رغم العهر والبطش، صارية للفجر ومنارًا للأمم، وستدوم، رغم ضجيج الحروف، كما يدوم ض..و .. ء القمر.
فمَن بعد اليوم مع حيفا سوى من بقي فيها؟