ملاحظات أوّلية حول مسيرة عودة لم تبدأ- بقلم: المحامي جواد بولس
من الصعب، إن لم يكن من الإجحاف، أن نتحدث عن مسيرة العودة وتداعياتها في يوم الرابع عشر من أيار/مايو المنصرم بمصطلحات الربح والخسارة أو بمكاييل الفشل والنجاح؛ فدماء الشهداء، الذين سقطوا على أرض قطاع غزة، وجراح الآلاف، يجب ألا تحسب بهذه الموازين وألا تخضع لتلك المفردات “التجارية” المبتذلة العابرة .
لقد زحف جميع الشهداء والجرحى ومعهم عشرات الآلاف من أبناء القطاع ، بصدورهم العارية، صوب حلمهم اليافع وهم يتحدّون الحصار والمستحيل وعنجهية جيش أسكرته رائحة الرصاص ودخان البنادق.
بعد أن “عافوا الخنا” انطلقوا كزرافات من الأيائل نحو الشمس، فاصطادتهم نيران القناصة وأسقطت بعضهم في مشهد ملحمي يجسّد ما ينشده الفلسطينيون منذ أكثر من مائة عام: “نموت وتحيا فلسطين” ، ويعطي للمقاومة طعمًا آخر.
فهل يجوز الاختلاف حول جدارة هذه “البطولة” وقيمتها، ولمّا تجف دماؤهم بعد ؟ وهل يعقل أن نردّد ما تخترعه وتجترّه ماكنة الاعلام الإسرائيلي حول مسؤولية حركة “حماس” عن الدماء المسفوكة ؟
وهل يصحّ أن ننسى ما علّمنا التاريخ خاصة عندما تسود وتعشّش الظلمة في أرجاء الكون ويصبح العجز قوت البشر وماءهم؟
ألم نشهد كيف صار “تحرّش” بسطاء الشعوب وأحرارهم بأقدام الغيب خيارهم اليتيم فسعوا نحوه في رحلة التحرر من نير العبودية والاستبداد؟
وهل ننسى كيف كان موتهم بعثًا لحياة الآخرين حتى وهو يتحقق عند حافة العبث أو في فم العدم؟
غزة في السبعين من عمر النكبة تذكّرنا : كم من بطل سقط على مذابح العدل وصارت عنّاته صرخات في حلق الزمن ومهاميز تنقر ضمائره الغائبة؟
ماذا بعد هذه المسيرة هو السؤال، لا ماذا قبلها؛ فما حققته هذه الجموع منذ بداية رحلتها في الثلاثين من أذار المنصرم لا يمكن مغمغته بالتساؤلات و”باللولوات”، وبالتمني، ولا “ضبضبته” بالهمز واللمز وبالتجنّي.
ويكفي أهل غزة أنهم انتفضوا من بين ركام أراده البعض أن يتحول إلى شواهد لقبور أحياء يعيشون كموتى؛ ويكفيهم انهم انتصبوا “كالصبّار” في وجه عالم، راهَن حكامُه على تركيعهم بواسطة التجويع والخنق والحصار.
صحيح أنّ هذه الجولة لن تحقق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، لكنها استعادت، في زمن الخذلان العربي وبعد حقبة من الجفاف والتراجع الفلسطينيين، بعضًا من مكانة القضية الفلسطينية ودفعت بها مجدّدًا إلى صدارة الأحداث في العالم كلّه؛ والأهمّ أنها أنجزت ذلك على هدير موج كاسح ونداء “العودة”، في وقت اعتقدت فيه إسرائيل وحلفاؤها أنهم استطاعوا محو هذا الايمان بالحقّ واقتلاع هذا الحلم من صدور الأجيال الفلسطينية التي لم تعش ذلّ أهلها ولم تذق علقمهم كما ذاقوه في عام النكبة.
تصدّرت صور المتظاهرين إعلام العالم وبرزت عناوينه وهي تؤكد على ارتكاب “مذبحة إسرائيلية في غزة” فلم تكتمل فرحة ” كوشنير” ، صهر ترامب، ولا الحكومة الإسرائيلية وهم يفتتحون سفارة أمريكا في القدس على وقع زغاريد أمهات الشهداء. بل انهم تيقنوا، في ذلك اليوم الكبير ورغم ما كابروا به أمام الكاميرات، أنّ دموع غزة ستبقى هي الحقيقة الأقوى من ضحكاتهم وعربداتهم، وأنّ أصوات الدم المسفوك ستتحول إلى أنين الأرض الراسخ في حضن التاريخ، الذي إن سألوه عن غزة فسيقول لهم: إنها تعيد للكرامة “تاءها” وتربطها رايةً عالية لن تقدر عليها العواصف أو حوافر الخيل وخيانات البشر.
لم نتوقع من إسرائيل أن تتصرف بوحشية أقلّ مما تصرفته، بل خشينا من ردة فعلها الدموية وتصوّرنا كيف سيقوم قادتها بتصنيع مشاعر الخوف من الزحف الفلسطيني باتجاه حدودها وتوظيف ذلك شعبيًا من أجل تجنيد أغلبية سكانية وراء سياساتهم.
فاسرائيل لن تعيد حساباتها ولن تتّعظ رغم فداحة الخسائر البشرية في الجانب الفلسطيني الأعزل. وهي ستحاول أن تتعلم من تجربتها وتتجنب، في المرّات القادمة، ما تعرّفه في قواميس قمعها كخسارتها أو كما جاء على لسان الناطق باسم جيش احتلالها، الضابط يوناتان كونريكس.
فأمام جمهور أمريكي يهودي اعترف هذا الضابط قبل أيام “بأنهم لم ينجحوا في تقليص عدد القتلى والإصابات”، وأضاف بأن “عدد المصابين( الفلسطينيين) قد أضرّ بنا كثيرًا، وأنّ إعلام الطرف الفلسطيني قد غلبنا بالضربة القاضية؛ بينما فشلنا نحن بتمرير رسائلنا ومواقفنا بخصوص ما كنا ندافع عنه هناك”.
لم يزعجه عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين ولا قوة ردة فعل جيشه والاعتداء على جموع مدنية، بل كان همّه أنهم فشلوا بتبرير ردة فعلهم الدموية وسقوط تلك الأعداد الكبيرة من الأرواح والجرحى.
يعرف الناطق الرسمي لجيش الاحتلال، مثل قادته، أنّ أكثرية المواطنين اليهود تدعم سياسة الحكومة وممارسات جيشها؛ مع هذا فأنا استشعر، بالمقابل، وجود تساؤلات خفيّة بين أوساط يهودية ليست واسعة تجعلهم يشكّكون بجدوى سياسات القمع الدموية ضد الفلسطينيين، خاصة بعد انتشار مشاهد الزحف الجبار لجموع المواطنين العزّل الذين لم يهابوا النار ولا الموت بل استقدموه في سبيل الحياة وفي مشهد لم يستطع إسرائيليون كثر من اغفاله.
كشفت مسيرة العودة عن “خوف الطغاة في إسرائيل من الذكريات” على حقيقته، ونبشت كذلك عناصر الإلتباس المستوطن في تساؤلهم الوجودي الدائم، فهل “بقوّة السيف سنحيا ؟ وإلى متى سيحمينا رصاص بنادقنا من هذه الجموع العطشى للحرية والوطن؟”
لم تستعر النيران في الخامس عشر من أيار ولم تخرج الجموع كما في اليوم المنصرم نحو الحدود، فعزا بعض الإسرائيليين ذلك إلى ارتداع أهل القطاع من عدد الشهداء ومن صرامة النيران، وبنوا تفسيرهم على ما يحسبونه قانون القوة النافذ بين “العرب”، الذين لا يفهمون الا لغة العصا والقبضة والقمع !
في المقابل حاول البعض أن يفسّر هذا التراجع بصمت وهدوء الضفة الغربية المحتلة التي لم يهب سكانها لنصرة إخوانهم في غزة، فكانت ردود فعلهم متواضعة وبعيدة عن سقف جميع التوقعات.
لقد كشفت المسيرة عمق الهاوية القائمة بين غزة وأختها الضفة الغربية؛ فحتى على لون الوجع لم يتفقوا، وأخشى ألا يتفقوا وأن يبقى الخلاف قائمًا وأن يصير حاجزًا منيعًا في وجه مسيرة العودة الكبيرة.
وعلى ساحة أخرى، فلقد عبّر المواطنون العرب في داخل إسرائيل عن تضامنهم مع أهل القطاع وذلك من خلال عدة مسيرات احتجاجية عمّت بعض البلدات، وفي إعلان يوم إضراب عام في القرى والمدن العربية نُفّذ يوم الأربعاء الفائت. كانت ردود فعل الجماهير العربية في إسرائيل نمطية ولم يطرأ عليها أي تغيير على الاطلاق، وهذا بحد ذاته يستدعي تناولها بوقفة فاحصة؛ فإلى جانب ما يميّز موقع هذه الجماهير في الدولة وما يحدّد هوامش عملها تحت سقف القانون والمواطنة الإسرائيلية، قد نجد في تكرار أساليب الاحتجاج وتواضعها مؤشرًا على وجود خلل بنيوي في مبنى القيادة ودور القياديين على اختلاف مواقعهم.
وأخيرًا، فكما توقعنا غاب دور الدول العربية والإسلامية عن التأثير والأحداث، وباستثناء بعض بيانات الاحتجاج الخجولة، لم يكن لهذين “العالمين المحنطين” أي دور يذكر، فيصحّ فيهم ما قاله الشاعر جريس دبيّات ابن “قانا” وشاعرها الجليلي في هذا السياق: “أدعو عليهم ولا أدعو لهم أبدا / من لم يمُدّوا لنا في النازلات يدا”.
إنها مجرد ملاحظات أولية حول مسيرة لم تنته بعد، ومن السابق لأوانه، كما قلت في البداية، تقييمها بشكل نهائي؛ فما جرى على الحدود في غزة كان عملًا جبّارًا وكل من سانده ساند حقًا مبينًا، وكل من استنكف عن ذلك واعتزل، نقول له ما قاله شاعرنا: “لم أدعُ يومًا على حيّ فمعذرةً / من بعد غزة ، أني أفقد الرّشَدا”، فقد مضت الذكرى السبعون للنكبة ودخلنا في عام تيه جديد والسؤال يبقى سؤال القرن نفسه: ماذا بعد هذه المسيرة وإلى أين العودة؟