مضت على قرار مقاطعة الأسرى الاداريين الفلسطينيين لمحاكم الاحتلال الاسرائيلي أربعة اشهر.
ورغم الخطوة، لم تنقطع المحكمة العسكرية في معسكر “عوفر” عن النظر في تثبيت أوامر الاعتقال المجحفة الصادرة بحق الفلسطينيين؛ والتي بلغ عددها، منذ مطلع هذا العام وحتى نهاية أيار الماضي، 413 أمرًا، كان من بينها 154 أمرًا جديدًا.
ذاق آلاف الفلسطينيين مرارة هذه التجربة القاسية وعبثيّتها؛ فاعتقلوا بدون تهمة وحوكموا أمام محاكم غير نزيهة تفتقد لأبسط اصول المحاكمات والتقاضي؛ ويكتفي قضاتها ، في معظم الاحيان، باستراق النظر الى ما يسمى “ملفات سرية”، لا يطّلع عليها الأسير ولا محاموه، كيما يُلقوا بالمعتقل وراء القضبان.
وقد طالت أوامر الاعتقال الادارية جميع فئات الشعب الفلسطيني، ولم تستثني فصيلًا ولا حزبًا ولا قطاعًا ولا حتى القاصرين ولا النسوة ولا القادة السياسيّين ولا نوّاب المجلس التشريعي؛ الذي ما زال ثلاثة من أعضائه، هم خالدة جرار ومحمد جمال نعمان النتشه وحسن يوسف، قيد الأسر، رغم ما تكبّدوه من ظلمٍ خلال سنوات كفاحهم الطويلة ضد الاحتلال.
تعود بدايات “رحلة” النائبين النتشه ويوسف “الجبلية “مع سجون الاحتلال الى أوائل تسعينييات القرن الماضي، بيد أن أكثر فصولها إيلامًا هي تلك السنوات العديدة التي قضاها كل واحد منهما وهو معتقل “إداريًا” ; أي من دون مواجهته بتهمة عينية، واكتفاء القضاة بادّعاء النيابات العسكرية، في كل مرة اعتقلا بها، بكونهما قياديين بارزين في حركة “حماس” المحظورة اسرائيليًا، وبأنهما يخطّران من موقعيهما على أمن وسلامة الجمهور !
أمّا عضوة التشريعي خالدة جرار فكانت قد اعتقلت إداريًا لأول مرة يوم 21 يوليو/تموز عام 2017، بعد أن قضت، قبلها بعام، مدة 14 شهرًا في سجون الاحتلال اثر “إدانتها” في محكمة الاحتلال العسكرية بكونها قيادية ناشطة في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” .
لم تفرج سلطات الاحتلال عن خالدة جرار بعد انتهاء مدة أمر الاعتقال الاداري الأول، بل قام من يسمى بقائد قوات الجيش بتجديده لمدة ستة أشهر اضافية، كانت ستنتهي في الثلاثين من يونيو/حزيران الجاري.
ولكن .. مرة أخرى وقبل انتهاء المدة باسبوعين، قام نفس القائد العسكري باصدار أمر اعتقال جديد لمدة ثلاثة أشهر اخرى، من المنتظر أن تنتهي في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول القادم.
قد تعكس حالات النواب الثلاثة تعقيدات الواقع الفلسطيني الداخلي وعلّاته، لكنها حتمًا تعكس صور المعاناة التي عاشها ويعيشها كل من يصدر بحقه أمر اعتقال إداري؛ فالأسير/ الضحية يواجه حالة من العدمية والعجز القاهر، لأنه لا يُمنح فرصةً حقيقية للدفاع عن نفسه ويُترك ليواجه أشباحًا أو “طواحين هواء” ؛ وفي نفس الوقت يبقى حبيس قلق منهك ؛ فذلك “القائد العسكري” يملك قوة مطلقة بتجديد أوامر الاعتقال من دون تحديد سقوفها أو كشف مسبباتها؛ وهو لذلك قادر على ابقاء ضحيته في حالة من عدم الاستقرار النفسي والترقب السرمدي، المهلكَين !
ويضاف الى ممارسات قوات الأمن دور المحاكم العسكرية والمدنية، التي عملت طيلة السنوات الخوالي كأجهزة “تبييض وتغليف” لإجحاف قوات الأمن والقادة العسكريين، حتى اصبحت عمليًا شريكة كاملة في واحدة من المخالفات الإسرائيلية الأبشع للقوانين الدولية ولأبسط حقوق الأنسان المُقرّة عند معظم الامم العصرية.
على هذه الخلفيات وبسبب هذا الوقائع، قرر الأسرى الاداريون مقاطعة جميع الأجهزة القضائية الاسرائيلية، وذلك كخطوة نضالية أولى في مشروع أشمل، قد يضطرهم، كما أُعلن على لسانهم، إلى اتخاذ خطوات إضافية، مثل شروعهم في اضراب عن الطعام وفق خطة متدرّجة ستشمل في النهاية جميعهم وبعض الأسرى غير الاداريين.
فهل نجحوا ؟
من الضروري أن يقيّم الأسرى مردود خطوتهم ومدى فاعليتها، وذلك بعد مرور أكثر من أربعة شهور على بدء تنفيذها؛ فالمحكمة العسكرية، المخوّلة بمراجعة كلّ أمر يجدّد أو يصدر لأول مرة، مارست مهامها وكأنّ شيئا لم يحدث، وصادقت ،كما تقدّم، وبدون حضور الأسرى أنفسهم إلى قاعاتها، على مئات الأوامر ؛ حتى وصل عدد الأسرى الاداريين اليوم إلى 430 أسيرًا ؛ مما يدل على أن الجهاز القضائي، وقبله اجهزة الأمن التنفيذي، لم تتأثر بشكل فعلي بخطوة الأسرى، ولم تغيّر من سياستها على الاطلاق.
هنالك أسباب عديدة لتكوُّن هذه “المعادلة” الملتبسة ؛ فعلى الرغم من موافقة جميع فصائل الحركة الأسيرة الفلسطينية على خطوة الأسرى الاداريين بمقاطعة المحاكم، يبقى وجود الشرخ الأساسي القائم بين أسرى “حماس” وأسرى “فتح”، عاملًا يسهّل على “السجان الاسرائيلي” ايجاد تصدعات في جدار الوحدة وتحويل قرار المقاطعة إلى نوع من “الحبات المسكنة” التي لا تشفي العلة المزمنة ولا تداويها.
بمعنى آخر، يراهن السجان الاسرائيلي على عدم وجود قوة ردع حقيقية داخل السجون ، قابلة للتبلور وللتحوّل إلى طاقة نضالية كاسحة؛ وذلك ليس بسبب وجود حالة الخلاف العامودية الخطيرة بين أكبر معسكرين فحسب، بل بسبب وجود “جيوب” من التخندقات “الشللية” أو “الظلالية الفصائلية الداخلية” العاكسة لنفس تخندقات ذلك الفصيل التي تمارسها ” الأجنحة”، على اختلافها، خارج جدران السجون.
على جميع الأحوال سيبقى أهل الزنازين أدرى بتجاربهم وبشعابها، فقد كانوا أصحاب القرار وسيبقون أهله وأبناء النهار؛ ومن مثلهم يعرف معنى وقوة الوحدة الحقيقية، خاصة إذا عززها من الخارج من يسندها وما يدعمها.
إنّ تبنّي الشارع الفلسطيني وقياداته السياسية والمؤسساتية لمطالب الحركة الأسيرة كان دائمًا شرطًا أساسيًا في تحقيق مطالبها أو بعضها، وتحرُّك “الشارع” مع خطوتهم قد يحوّلها إلى”زناد” على شراره سيولِد ضغطًا محليًا ورأياً عامًا خارجيًا مساندًا وضاغطًا، من شأنه أن يستجلب طاقات المؤسسات الحقوقية المؤثرة وحناجر احرار العالم لتصدح مع الأسرى وتقف مع مطالبهم؛ كما جرى في معارك سابقة سجلت فيها الحركة الاسيرة او بعض أفرادها نجاحات لافتة ومميزة.
لستُ محبطًا، لكنني مثل الجميع أشعر بغياب دور الشارع الفلسطيني وتفاعل مؤسساته وبانعدام دور قياداته عن المشهد ، رغم مرور أربعة شهور على خطوة، بُني عليها الكثير. وما زال معظم الأسرى الاداريون يخوضون التجربة بمرارة من دون “عمقهم” المحلي وفي أجواء متقلبة ومنذرة.
على الإسرى إجراء جرد لحساباتهم الواقعية وعليهم عدم البقاء في محطتهم الحالية، فقطار ” الإدراي” مندفع رغم قرارهم، وضحاياه يقبعون وراء القضبان وهم صامدون بإرادات فولاذية ، باسمون لفجر، بعضهم ينتظره بصبر المؤمنين الثائرين منذ اكثر من عشر سنوات.
أخيرًا ، عبّرت جهات دولية عديدة عن معارضتها الواضحة لسياسة اسرائيل ولممارستها في موضوعة الاعتقال الاداري؛ وقد كان لتدخل بعض تلك المؤسسات والشخصيات في الماضي أثر كبير على انحسار أعداد الأسرى لبعض الوقت ، الا انّ متابعة هذه الجهات لم تتمّ بشكل منهجيّ وموفق، فهي ليست “ثوريةً” أكثر من أصحاب الوجع والثورة ؛ وكي نعيدهم إلى الحلبة من إجل فلسطين وأسراها الاداريين، يتوجب أولًا على “أهل” الأسرى أن يعتلوا الحلبة ويتصدروا الساحات، وإن لم يفعلوا فسيذهب شقاء أسرى اليوم – يا للخسارة – في مهبّ أسرى الغد !