غسّان كنفاني… حياة صعبة
في صباح الثامن من يوليو/ تموز لعام 1972، انفجرت سيارة مفخخة في بيروت، لتتمزق جسد غسان كنفاني الرجل الذي عاش ومات حارسا للحلم الفلسطيني، ولا يزال النقاد والدارسون والمبدعون والمؤرخون يحاولون استخراج ما ألقى به في أعماله وفي دفتر حياته المليء بالكلمات والخطوط الغامضة، حيث تتكشف بين حين وآخر أبعاد جديدة لشخصيته، سواء أكان ذلك على المستوى الشخصي، أم على المستوى الإبداعي!
بعد رحلة نزوح طويلة من يافا، إلى عكا، إلى الغازية في لبنان، إلى حمص، فالزبداني، إلى بيت متواضع وقديم في حارة الشابكلية بدمشق، أقام غسان كنفاني وعائلته أواسط عام 1949.
رحل غسان من يافا إلى عكا، حيث أقامت عائلته في بيت جد أمه، كان يوم 25 نيسان 1948 وهو يوم الهجوم الكبير على عكا من العصابات الصهيونية، وفي 29 نيسان 1948، لجأت عائلة غسان مع سبع عائلات أخرى إلى صيدا والصالحية والمية مية، إلى أن استقر بهم المقام عند أقرب قرية للعودة إلى فلسطين، قرية الغازية أقصى جنوب لبنان.
وبعد ذلك انتقلت العائلة يوم 8-6-1948 إلى دمشق، ثم الزبداني، وفي 19-10-1948 عادوا إلى دمشق وأقاموا في حي الميدان، حتى عام 1952، قبل أن ينتقلوا لحي الشويكة، حتى العام 1956 حيث انتقلوا لبيتهم الأخير.
لم تكن حياة غسان كنفاني سهلة، كانت آثار النكبة واضحة جدا في تشكيلها، وفي وعي غسان، الذي استعاده شقيقه عدنان كنفاني في كتابه “غسان كنفاني.. صفحات كانت مطوية”.
طفولة وصبا غسان، تشرده والعائلة من بيت إلى بيت، ومن دولة إلى دولة، مناف كثيرة في سبيل العيش والعلم، والنظرة دائما متجهة إلى فلسطين.
يقول الشاعر خالد أبو خالد في تقديمه للكتاب: كيف تشكلت ملامح الكاتب الثائر؟ ما الذي أسهم في تكوينه؟ النكبة.. أم الأسرة؟ كيف رأى وكيف قرأ؟ وهل كان صاحب القميص المسروق وهذا عنوان إحدى قصصه، يكشف عن مستقبله الخاص في خطواته الأولى على طريق الأدب.. أم عن مستقبل شعبه، إذ كان يعبر عن الأنا الجمعية في مشروعه الذي تمحور حول قضية واحدة.. هي فلسطين.
فقد عاش غسان كنفاني على جمر الحب والحلم، وهو ما منحه الشهادة الأولى في حياته! حبه فلسطين، وافتخاره بالانتماء إليها تاريخا وشعبا وقضية وطنية إنسانية، هو الذي منحه القدرة على اختزان هذا الحلم الكبير بفلسطين التي يريدها، لا على الطريقة الدونكيشوتية، بل على طريقة الثوار المؤمنين بقضاياهم، والفاعلين فيها.. أي أنه يمكن القول على طريقة غرامشي: كان غسان كنفاني مثقفا عضويا بامتياز!
وإذا ما تذكرنا بعض تفاصيل حياته، فلسوف نؤَمّن على مقولة غرامشي، حيث أدار غسان ظهره لحياة شخصية ذاتية كان يمكن لها أن تكون مغايرة تماما، من حيث الثراء المادي، والأمن الشخصي، وتحاشي تلك النهاية التراجيدية التي ميزت استشهاده.
ولكن غسان كنفاني، وفي خلال تفاصيل حياته اليومية، حتى من قبل أن يغادر الكويت ويستقر تماما في بيروت، كان يسير نحو هذه النهاية التراجيدية، ربما وهو واعٍ إلى حد كبير طبيعة هذه النهاية! ولعل رفضه الحماية الشخصية في تلك الفترة بناء على معلومات عن نشاط ملحوظ للموساد في بيروت، يؤكد ما ذهبنا إليه.
إن الكثير مما في حياة غسان وحبه وحلمه واستشهاده، يضعه جنبا إلى جنب مع أبطال الأمم، والتي غالبا ما تخلع على هؤلاء الأبطال ثوبا قدسيا، تتخلله خيوط الطقوس الأسطورية، وهو أمر طبيعي طالما كانت هذه الشخصيات حاملة صلبانها على أكتافها منذ اللحظة الأولى، صاعدة الجلجلة بإكليل الغار لا بإكليل الشوك!
ولا نحتاج لابتداع ملامح أسطورية في حياة غسان واستشهاده، حتى ولو جاءت ولادته بعد استشهاد الشيخ القسّام، وحتى لو تم تقطيع جسده وهو يضحك في صحبة ابنة شقيقته ذاهبا بها إلى عمله اليومي، وحتى وهو يتناول يوميا حقنة الأنسولين للسيطرة على مرض السكري، ليذكرنا بتشي غيفارا الذي قاد بعض المقاتلين في جبال سيرا مايسترا وهو يعاني مرض الربو المنهِك.
يكفي أن نقرأ قصص غسان كنفاني القصيرة، كي نكتشف مقدار الحب العظيم الذي كان يفيض منه نحو البشرية، ومقدار الأسى الذي كان يكابده أمام عذابات الناس البسطاء والمقهورين والمنفيين. ولا نظن أحدا ينسى قصته “موت سرير رقم 12” التي يتماهى فيها مع مريض عُماني، وكأني به يردد قول الشاعر: وكل غريب للغريب نسيبُ.
لقد كرس غسان جهوده وسخرها لأجل قضيته الإنسانية، من دون أن يتعامل مع الفلسطيني “كسوبر مان” مثلما درجت العادة عند سواه من الكتاب الفلسطينيين. فنرى بعض أبطاله في أوج ضعفهم الذي تعامل معه غسان كحق بشري لا جدال فيه. ونرى آخرين مهزومين أو باحثين عن الخلاص الفردي، ونرى بعضهم وهم يتحركون بفعل الخصاء!
نكتشف في غسان ذلك البعد المعرفي بجوهر الإنسان، وهو ما جنبه الاصطفاف في طابور التنميط الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، أثناء صعود المقاومة الفلسطينية المسلحة، بل نجد أكثر من ذلك، حيث لا يتناسى غسان تلك الهواجس الإنسانية التي تبدو صغيرة في مظهرها.
ولكنه يدرك مدى الأهمية التي تنطوي عليها، منطلقا كما يبدو من رؤية واضحة تؤشر إلى العمل والنضال من أجل تحرير الإنسان الفلسطيني من ذاته المثقلة بإرث جمعي أُسُّه القمع الاجتماعي والسياسي والاستبداد المتعدد الأبعاد، كالكبت الجنسي مثلا في روايته “ما تبقى لكم”.
ولا بد من الإشارة هنا إلى تعدد اهتماماته الثقافية والمعرفية، حيث ساهم هذا التعدد في بلورة رؤية واضحة لا في ما يخص القضية الفلسطينية فقط، وإنما في كل ما يتعلق بالحياة ومفرداتها المتعددة. ومن هنا كان قادرا على الكتابة السياسية بشكل دوري، والكتابة النقدية الأدبية، والغوص في التراث الفلسطيني برؤية غير معنية بالتوثيق، بمقدار عنايتها بالحفر العميق في البحث في دينامية تشكل المجتمع الفلسطيني، والمؤثرات الخارجية والداخلية.. الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية التي ساهمت في تشكل هذا المجتمع.
ولعل هذه الاهتمامات المتعددة ساهمت في بلورة مشروعه الإبداعي الكبير، والذي وصل إلى ثلاثة مجلدات بين القصة والرواية والمسرحية وهو بعد في منتصف الثلاثينيات من عمره.
وعندما نقول ثلاثة مجلدات، فإننا لا نقصد الإشادة بالكمية الكبيرة هذه، طالما كان القراء كلهم يعرفون أن هذه الكتابات لم تكن مجرد تحريض أو دعاية أيديولوجية، بل انطوت على أبعاد جمالية كبرى، تجلت في ابتعاده عن التنميط الذي يصعب تجنبه في كثير من الحالات، وبخاصة حين تدور الكتابات كلها حول قضية واحدة.
ولا مبالغة في القول إن هذه هي إحدى مزاياه الإبداعية العظيمة، حيث استطاع العثور على النموذج الفني لا النمطي، وهو ما تؤكده ذاكرة القراء الذين لا يمكن أن ينسوا “أبو الخيزران” و”أم سعد” مثلا! في الوقت الذي لا يتذكرون أيا من شخصيات كتّاب آخرين تناولوا القضية ذاتها.
وإذا أردنا البحث عن مبررات لهذه الميزة الإبداعية، وغيرها من الميزات الأخرى، فإننا بالضرورة لن نذهب إلى ما هو أبعد من غسان ذاته، وفهمه للعملية الإبداعية. فهو المنفي من وطنه، والباحث عن مكان أليف يقيم فيه ويستوطنه في غربته المريرة، اكتشف هذا المكان في اللغة، فأقام فيها، وأصبحت بيته الذي يعتني به بكل حرص وعناية، وهو يعرف جيدا أن هذه العناية هي الوسيلة الوحيدة لإقامة آمنة.
والإقامة في اللغة لا تعني الاستغناء عن الوطن، بمقدار ما تعني وطنا موازيا قابلا للتحول إلى الوطن الأول.. الحلم القابل باللغة إلى التحقق.
ومن هنا فإن الكتابة عند غسان كنفاني لم تكن لتتناسى جمالياتها واحتياجات صاحبها، باعتبار الكتابة مشروعا شخصيا في المقام الأول، على رغم تحوّله إلى مشروع جمعي في التلقي.. أي أن غسان كنفاني لم يكتب انطلاقا من شعوره بوجوده كقيادي عليه واجب الفعل والتنوير، ولكنه كتب انطلاقا من تلمسه الدائم حاجته الإنسانية إلى تحقيق حلم شخصي مشروع، مرتبط بقضية كبرى، الأمر الذي جعل من غسان حارسا أمينا لحلم جماعي حينا، وموقظا الحلم حينا آخر!
وما ندركه الآن جيدا، هو أن غسان كنفاني بإقامته الحميمة في اللغة، تمكن من مواصلة القيام بدوره كحارس للحلم الفلسطيني، ولأحلام البشرية كلها، طالما بقي الكون يرزح تحت كل هذا الظلم والاستبداد، وطالما ظل على هذه الأرض أسى مقيم.