أثارت زيارة وفد القائمة المشتركة إلى مقر الاتحاد الاوروبي في العاصمة البلجيكية، بروكسيل، موجة عاتية من التحريض وتهجّمات يمينية قادها ضدهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي لم تتوقف ضغوطاته على وزيرة العلاقات الخارجية، فيديريكا موغيريني، بهدف ثنيها عن عقد اللقاء معهم، أو ، على الاقل، عدم مشاركتها شخصيًا فيه، وانتداب موظف أقل رتبة ومكانة كي يقوم بالمهمة.
لم تنجح جهود الديبلوماسية الإسرائيلية وأعوانها في العالم في ردع من تقف على رأس السياسة الخارجية الاوروبية؛ وقد أوضح متحدث باسمها في بيان زاد من حفيظة اليمين الإسرائيلي بأنها “تجتمع ، كوزيرة للخارجية، بشكل روتيني مع ممثلين عن الحكومة والبرلمان، بما في ذلك المعارضة، وإسرائيل ليست استثناءً” وذلك في ما يصح اعتباره “نغزة” موجعة في خاصرة موقف قادة إسرائيل التقليدي، المصرّين على ضرورة التعامل مع إسرائيل كحالة استثنائية لا تخضع للمعايير الدولية ولا للمحاسبة العادية.
يعتبر الموقف الإسرائيلي المعارض للزيارة متوقعًا ومبررًا خاصة بعد تصريحات نواب القائمة المشتركة وسائر القيادات العربية، وعلى رأسهم محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية، بأنهم عازمون على المضيّ في دق أبواب “العالم” وتجنيد مؤسساته ومنابره لصالح قضايا المواطنين العرب وحقوقهم المسلوبة وضد سياسات القمع والاضطهاد التي عرّاها مؤخرًا “قانون القومية” العنصري.
في نفس الوقت استجلبت زيارة الوفد أصواتًا انتقادية عربية محلية كانت قد أطلقتها بعض الجهات مباشرة بالتزامن مع نشر الخبر في الاعلام المحلي. ومن اللافت أن نرى كيف استنجد، فيما بعد، بعض المنتقدين وعزّزوا مواقفهم بما أعلن من تصريحات لموغيريني اعتبرت فيها “أن قضية تشريع قانون القومية يبقى شأنًا إسرائيليًا داخليًا” ؛ فتشاوف هؤلاء بقدرتهم على التنبؤ وبرجاحة تقديراتهم السياسية وصوابها!
ما زلت مؤمنًا بحرية الجميع وبحقهم بالتعبير عن مواقفهم ؛ لكنني أتوقع من العقلاء والمجرّبين أن يمارسوا هذا الحق بمسؤولية وباتزان مبنيّين على جميع المعطيات المتوفرة، والبدائل الممكنة والاحتمالات المتاحة أمامنا كجماهير عربية تواجه أعتى الهجمات العنصرية وأخطرها، ونحاول الوقوف في وجهها وصدّها من دون “فزعات” الأشقاء واسنادات الأخوة ودعم الحلفاء.
من الطبيعي ألا تستحوذ خطوة سياسية ما على إجماع كل مركبات المجتمع العربي ومفاعلاته، لا سيما في واقع سياسي معقد كواقعنا؛ بيد أنني اعتبر كل انتقاد/تهجّم لم يراع حقيقة “استقتال” قادة الدولة لمنع الزيارة، جهدًا منقوصًا ومثلومًا وغير جدّي؛ كما وسيكون التعلق بتصريح واحد صادر عن الوزيرة، واغفال مواقفها السابقة تجاه نتنياهو وسياساته، غير مهني وغير منصف؛ فلقد صرّحت في ردّها على أحد الاستجوابات المقدمة في البرلمان الأوروبي قائلة : “إن هذا القانون يتعارض بشكل مباشر مع المعايير والأعراف الدولية وعلى رأسها الحفاظ على حقوق الانسان والتي تعتبر جزءًا هامًا جدًا من علاقة الاتحاد الاوروبي مع دولة إسرائيل، إلى جانب حقوق الأقلية العربية داخل إسرائيل”.
رغم جميع الانتقادات، وبعضها كان حقيقيًا ومثيرًا، يبقى لقاء النائب أيمن عودة مع الوزيرة موغيريني هامًا، ومثله تعتبر سائر اللقاءات التي أجراها قياديون في الماضي – كمبادرة رئيس لجنة المتابعة لتدويل قضايانا وغيرها من المحاولات الفردية أو الحزبية- أو تلك التي قام بها الوفد في هذه الزيارة، ولاحقًا في زيارة النائبين الطيبي وزحالقة لمقر الجامعة العربية في مصر .
تدل هذه المبادرات على ولادة نهج واعد وجديد، رغم ادعاء البعض أنه فُرض على القيادات العربية بعدما فرغت جعب أحزابها وحركاتها السياسية من سهامها وتصحّرت منابتها؛ فلا غضاضة من محاولات استنصارنا بدول العالم الذي نسعى إلى عتباته؛ ولكن هنالك من يشعر بأن هذه ” المبادرات الدولية” ليست أكثر من محاولات مستسهلة صارت تستجير بها القيادات كي تستعيض “بخراجها ” وذلك بعد ثبوت عجزها في الميادين المحلية، وانحسار قوتها بين الجماهير العربية، وغياب تأثيرها داخل مجتمع الأكثرية اليهودية !
لم تستثرني معظم الانتقادات العربية التي وجهت إلى هذه الزيارة ولا الى ما سبقها من محاولات مشابهة؛ فاسرائيل، بخلاف هذه الاصوات المنتقدة، تعرف أن مثل هذه العلاقات قد تكون مجرد “لكشات” صغيرة، لكنها قد تتعاظم وتتحول إلى ضربات مؤلمة ؛ فرغم موقف موغيريني المذكور بشأن “قانون القومية” يتذكر قادة اسرائيل ما قالته نفس الوزيرة حول هذا القانون وغيره في مناسبات أخرى، وما صرحت به كذلك، باسم جميع الاوروبيين، مؤكدة انهم كانوا “واضحين بشدة عندما يتعلق الأمر بمسألة حل الدولتين، فنحن نؤمن أن ذلك هو الخطوة الوحيدة إلى الامام، وكل شيء يعرقل أو يمنع تحقيق هذا الحل يجب الإمتناع عنه”.
من يناضل اليوم ضد قانون القومية وتبعاته؟ من قادر على اخراج الجماهير وهي ضحايا هذا القانون المفترضة؟
اخشى من الأسوأ؛ فرغم ان كثيرًا من القياديين الحقيقيين يؤيدون ما صرّح به رئيس القائمة المشتركة في هذه الزيارة، ويؤمنون بأن النضال ضد قانون القومية يجب أن “يكون على جميع المستويات وفي أساسه سيكون داخل إسرائيل ، بالمشاركة الفعالة بين المجتمع العربي والقوى اليهودية الديمقراطية. في ذات الوقت لشركائنا في المحافل الدولية مساهمة كبيرة وفعالة في دعم نضالنا ضد قانون القومية”، لم يتبع مظاهرة تل ابيب الكبرى أي نشاط حقيقي يذكر، فلقد “غابت شمس الحق” وعاد الناس إلى مهاجعهم ومعدهم وحسابات بنوكهم والى هواجسهم ومصالحهم وكأن لسان حالهم يتساءل لماذا النضال وكيف ومن أجل من ؟
ستبقى هذه المساعي نحو جهات الريح ضرورية كوسيلة كفاح مطلوبة، لكنها لن تجدي اذا ما بقيت يتيمة وكسيحة واذا استمرت قياداتنا في التغاضي عن مواجهة أصعب الأسئلة وهو: لماذا فقدت أحزابها والحركات السياسية قوة تأثيرها بين الجماهير العريضة ؟
لقد لفت انتباهي مؤخر ًا تساؤل البعض عما اذا أجري استطلاع رأي حول موقف الجماهير العربية ازاء قانون القومية وكيف ترى هذه الجماهير ضرورة وامكانيات مجابهته؟ لم أقرأ جوابًا على ذلك، الا اذا اعتبرنا الصمت جوابًا والهدوء ردًا والعزوف عن أي نشاط سياسي شدوًا وموسيقى!
لا يوجد متسع من الوقت ؛ فقد مرت سبعة عقود، غابت فيها “شمس الشعوب” عن سماواتنا. ومارت العروبة عميقًا في صحراء “سرت” ، وتشظى اسلام محمد عبده والرافعي على أطراف “الربع الخالي”. وفي اسرائيل نشأت أجيال جديدة ، وفيها نمت شرائح واسعة تعيش في بحبوحة نسبية وتنام وتصلي للذي احياهم وربّعهم على هذه النعم والخير والبركات.
فهل سيكون الخلاص في بروكسيل فقط ؟ طبعًا لا!
و هل سيسعفنا إضراب موحد ستعلنه القوى الوطنية والاسلامية في رام الله مع قيادة عرب ال 48 وفي الشتات ؟ طبعًا لا!
لا أعرف ماذا يخبيء لنا الغيب؛ لكنني مؤمن أن مياديننا ستبقى هنا: في تل ابيب وأم الفحم والناصرة وحيفا، ففيها يجب أن نعيش وأن نقاوم.