القدس بين سلطان ودير- بقلم : جواد بولس
اعتدى أفراد من الشرطة الإسرائيلية على مجموعة من الرهبان الأقباط كانوا قد نظموا وقفة احتجاجية عند مدخل “دير السلطان” المحاذي لكنيسة القيامة في القدس، والتابع للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
انتشرت صور الاعتداء في جميع وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وتحوّلت مشاهد الهجوم على الراهب مكاريوس الأورشليمي، وهو يقاوم وحشية الشرطة، إلى أمر مستفز ومؤلم . أمّا عملية إسقاطه فوق أرض الكنيسة وربط يديه والضغط بركبتي شرطي على ظهره ومحاولة شرطي آخر إلصاق وجهه في بلاط الساحة، فكانت برهانًا على ألا حدود لهمجية الاحتلال وعلى عدم وجود كوابح لعربدة القوة العنصرية ولسياسات القمع العدائية.
لا جديد في القدس ؛ فالجميع يصلّون فيها ومن أجلها، لكنها لا تحب إلا تهاليل السيوف ولا تنصف إلا أصحاب الغبار وتجار الفضة وكهنة الذهب.
لم يكن هذا الاعتداء على الرهبان الأقباط هو الأول من نوعه ؛ ففي أيار / مايو من العام 2013 ، نفّذت عناصر الشرطة الاسرائيلية اعتداءً وحشيًا مشابهًا على الراهب أورانيسيوس، فضربوه بشدة وضربوا معه ديبلوماسيَّين مصريين كبيرين كانا قد حضرا للاشتراك في مراسم احتفال ديني تقليدي يقام سنويًا في دير السلطان.
“في هذه اللحظات التقطت عدسات الكاميرا صور العنف الذي مارسته الشرطة ضد أورانيسيوس بلا سبب يذكر . لقد بدأت الشرطة اعتداءها عليه وضربوه بقبضاتهم وبأرجلهم ثم قام شرطي بخنقه وبإلقائه على الأرض، في حين استمر ستة من افرادها بضربه بشكل عنيف جدًا” ! هكذا وصفت صحيفة “معاريف” الاسرائيلية اعتداء شرطة الاحتلال قبل خمسة أعوام، وكأنها تصف ما حدث قبل بضعة أيام في نفس المكان.
تلقي حادثة دير السلطان بعض الضوء على واقع الأماكن الدينية المسيحية في القدس وما واجهته من صراعات دامية عبر التاريخ حتى أيامنا الحالية ؛ فلقد شكلت معظم هذه الأماكن محجّاً لجموع المؤمنين والحجّاج المسيحيين، المحليين منهم والوافدين من جميع أرجاء المعمورة؛ لكنها استغلت مرارًا كمذابح تنحر عليها ومن أجلها أرواح البسطاء في حروب “العروش والممالك” ، حيث يصير الدين عند الحكام وقودًا للمصالح والاتّجار به حطبًا للنفوذ.
“دير السلطان” هو مثال على هذه الصراعات، فهو يقع على سطح “مغارة الصليب”، كما يؤمن أصحابه، ويقولون ان السلطان صلاح الدين الأيوبي كان قد أهداه للكنيسة القبطية تقديرًا منه لدورها في محاربة الجيوش الصليبية التي احتلت القدس، وتعويضًا لخسائرهم الناتجة عن اضطهادهم ومنعهم من الحج إليها.
ومع الوقت ادّعت الرهبنة الحبشية بأنها تملك حقوقًا في هذا الدير، مما خلق علاقة مضطربة بين الكنيستين القبطية والحبشية.
لن نسهب في كل ما واجهه هذا المكان من قلاقل عبر التاريخ ؛ لكنّ حدة الصراعات عليه وصلت أشدّها في سبعينيات القرن الماضي عندما استوعب الاحتلال الاسرائيلي أهمية “الكنوز السماوية” التي غنمها، وراح يمارس حولها سياسة التأجيج الطائفي والتفريق بين الكنائس.
وقفت إسرائيل، لأسباب سياسية، ساعتها مع الرهبنة الحبشية وضيّقت على الوجود القبطي وحاولت تسليم الدير للاحباش وطرد الرهبان الاقباط، فلجأ هؤلاء الى “عدل” المحكمة العليا الاسرائيلية ، حيث لم يجدوا في صفهم سندًا ولا أمامهم غيرها.
لقد اعادتني قضية “دير السلطان” إلى سنتي الجامعية الأولى حين علّمنا أساتذة القانون الدستوري عن معاني تداعياتها في أروقة المحاكم الاسرائيلية. لم ندرك حينها، وكنا متحفزين وراء حلمنا الوردي، كنه دور قضاة دولة الاحتلال ولا معنى العدل في فقهم ؛ ولم نكتشف، إلا بعد أن طال الخريف، كيف ساعدوا في الواقع دولتهم في بسط نفوذها على المناطق المحتلة وفي طليعتها كنائسها وأماكنها المقدسة، وخلقوا إزاءها واقعًا ملتبسًا، أفضى ، عمليًا ، وبشكل طبيعي، إلى تحويل ولاء معظم أرباب تلك الكنائس نحو “رب البيت” الجديد، وإلى ترجيحهم فرص الاحتماء برحمة فكّيه أو في ظل بنادقه.
سوف يستفيد القاريء المعنيّ من مراجعة فصول هذه المأساة، وسيَفْهم كيف قامت الكنائس وما ضرورة الحفاظ على رعاياها العرب؛ فلصراع الاقباط على وجودهم في القدس معنىً مميز؛ خاصة في ضوء دور جميع المسؤولين عن معظم الكنائس التي أسسها المستعمرون عبر التاريخ في بلادنا والتي استولت اكليروساتها الأجنبية على رقباتها وأوقافها وتحكمت في شؤون عبادها، فكانوا رسلًا لحكوماتهم ولعبوا أدوارًا لم يقرّها انجيل ولا كتاب ولم يجِزها أي دستور إيمان.
لا نعرف كيف سيكون الرد المصري الرسمي على إهانة المواطنين المصريين وعلى مرمغة أثواب “أبناء مرقص” ، كما شاهدنا في الصور المهينة المذلّة ؛ لكنني أقترح أن نتواضع بتوقعاتنا، فقد انتهت “الازمة الدبلوماسية” قبل خمس سنوات بين الدولتين باعتذار قدّمه نائب وزير الخارجية الإسرائيلية في حينه ، زئيف ألكين، وتأكيده للمصريين على أنّ ما حصل لم يكن أكثر من سوء فهم بين أصدقاء !
لم تستسلم الكنيسة القبطية لسياسة إسرائيل، رغم تقلب العلاقات السياسية بين الدولتين ؛ وقد تشهد مواقف البابا شنودة ، رئيسها الراحل، على صرامة مواقفه وعلى تمسّكه بحقوق كنيسته التاريخية في الأراضي المقدسة.
لن نتطرق الى تفاصيل تلك العلاقة، لكنها بقدر ما تعكس من صلابة مواقف أباء الكنيسة القبطية، تُبرز بالمقابل، ضعف الدور السياسي المصري في هذه المسألة أو حتى غيابه.
كنت أقرأ بيانًا يدين فيه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، د. صائب عريقات، الاعتداء على بطريركية الاقباط الارثوذكس في القدس، حين عادت زوجتي غاضبة من زيارة قامت بها إلى كنيسة القيامة.
كانت ساحة الكنيسة الخارجية مكتظة بالحجاج الآتين من جميع أنحاء العالم، وكذلك كانت أعداد الناس في الداخل، إلا أنها نجحت بالدخول الى الكنيسة بشق الأنفس كي تفي بنذر قطعته على نفسها ؛ هكذا أخبرتني وأضافت : ” كان الكهنة اليونانيون يصرخون في وجهنا كأطفال صغار وينهوننا كالخراف”، قالت بحزن وأردفت: “يتصرفون وكأنها مملكتهم الخاصة، يعاملون المصلّين كأغراب غير مرغوبين ؛ لا يريدون أن نشعر بقداسة المكان ولا أن نتعبّد ولا أن نصلي”. سمعت منها ما كنا نعرفه؛ فلقد نجح اليونانيون منذ عقود بالقضاء على الوجود العربي الأصيل داخل كنيسة القيامة.
كانت الأخبار تنقل شجب “لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في اسرائيل” لاعتداء الشرطة على الرهبان الأقباط، ومثلها فعلت “دائرة الاوقاف الفلسطينية” مؤكدةً تضامنها المطلق مع “كامل النسيج المقدسي بكل مكوّناته وأطيافه الاسلامية والمسيحية”.
أصغت زوجتي قليلًا معي لسيل بيانات الشجب، كما نقلتها المواقع والمحطات ؛ لكنها سرعان ما عادت إلى حزنها وشكواها وقالت : “يحاول الأقباط حماية كنائسهم وقد يستعيدونها في يوم من الأيام ، ولكن من سيحمي حقوقنا، نحن بقايا العرب المسيحيين في فلسطين؛ فها هم تسعون راهبًا يونانيًا يتحكمون “بأم الكنائس” ويتصرّفون بمقدّرات وبأملاك أكبر الكنائس المشرقية، ويتعاملون معنا كسراب مسافر في طريق التيه والنسيان”.
لم أوقفها، بل ذكّرتها أين قرأنا رأيًا لكاتب تنبأ كيف سيتحوّل مسيحيو الشرق إلى مجرد “محميّات بشرية صغيرة” تشهد على الهزيمة وعلى تاريخ هذه الأرض.