غادرت مكتبي في الظهيرة وقدت سيارتي باتجاه دوار محمود درويش في حي المصيون في رام الله. كانت حركة السير أمامي وحولي غير عادية؛ بدت جميع الشوارع المحاذية كأنها مصابة “بجلطات” مرورية خانقة.
حاولت أن أستوضح من جموع الناس المهرولة نحو مكاتب رئاسة الوزراء الفلسطينية ما سبب تلك الأزمة، لكنهم كانوا يندفعون كالسهام دون أن يعيروني اهتمامًا.
تذكرت أننا في رحاب موعد الذكرى الرابعة عشرة لرحيل من كان “ماليء الدنيا وشاغل الناس” ، فعركت اذن الراديو وكان مذيع المحطة يتلو بصوت، لا يخلو من الرجولة والجدية الثورية، بيان منظمة التحرير الذي أكّدت فيه الدكتورة حنان عشراوي أنّ التاريخ الذي ظلم فلسطين كان قد أنصفها بمنحها قياديًا ورمزًا كياسر عرفات فهو “الثائر صاحب القامة الوطنية الجمعية ، عنوان فلسطين ورمزها النضالي، القائد الذي جسّد قضيتنا وترك إرثًا وتاريخًا ثابتًا لا يزول، وحفر معالم الهوية الوطنية الفلسطينية..”
إذن حُلّ اللغز، قلت لنفسي ؛ فهذه الجموع كانت في طريقها إلى المشاركة في إحدى فعّاليات الوطن لإحياء ذكرى قائدها الخالد.
وتذكرت بدوري ..
في أحد أيام تموز 2004 تلقيت اتصالا من المقاطعة دعاني فيه محدثي للحضور من أجل مقابلة “الوالد” ، وهو الوصف المحبب لديّ من الأسماء التي كانت تطلق على القائد/ الأخ/الرئيس/الختيار/الزعيم.
لم أكن من رجال “البلاط” الدائمين، ولكنني كنت استدعى ، من حين إلى آخر ، للقاء أبي عمار الذي كان يرغب، أحيانًا، بسماع رأيي في أمور كانت، على الأغلب، تتعلق بشؤون مدينة القدس؛ وذلك بسبب عملي الوثيق، لسنين طويلة إلى جانب الكبير فيصل الحسيني، أو بقضايا تخصّنا نحن الجماهير العربية في إسرائيل.
كانت دعوات المقاطعة لي أقلّ من أوامر وأكثر من رغبة ؛ وكنت أقبلها بفرح ورضا، فكل لقاء مع ياسر عرفات كان كالإمساك بجناحي نسر، تبدأه في حضن التاريخ وتنهيه طامعًا، كالطفل الذي يرغب في المزيد.
اصطحبني الحراس، بعد سلام مقتضب، إلى داخل المبنى المزنّر بأكياس الرمل الواقية. كانت علامات التعب والقلق البادية على وجوههم تشي بما عانوه طيلة سنوات الحصار الذي ضربه عتاة العالم على أبي عمار وعليهم.
قطعنا منطقة مكتبه، التي كنت أعرفها، ولم ندخله. وقفنا أمام باب أفضى إلى ممر طويل يسمى بالجسر .
كان أبو عمار يجلس على كرسي متواضع وأمامه طاولة صغيرة، يطل عليها، من علٍ، شبّاكٌ رحب، تتسلّل منه أشعة شمس ودودة.
كان يلبس قميصه الكاكي وكانت جاكيته الشهيرة معلقة على مشجب بجانبه. دخلت فظلّ جالسًا، لكنه كان ينظر نحوي وبسمة عريضة، تنسي معنى الوجع، تملأ وجهه. اقتربت نحوه فقام فاتحًا ذراعيه وضمّني فشعرت لماذا احببت وصفه بالوالد.
جلست قبالته فبدى لي شاحبًا وضعيفًا. حاول أن يحدثني بحيويته التي أعرفها، لكنني أحسست بالمعاناة تفرّ من عينيه. لم أسأله عن صحّته؛ فكيف يُسأل من يواجه خيانة “الاشقاء” وهجر “الأحباء” ومن يرفض الاستسلام والركوع أمام الأعداء، عن “صحته” ؟
كانت يده اليسرى تضغط على قصاصة ورق بدت لي أنها قطعة من جريدة عبرية. فاتحني بحاجته للجلوس على هذا الجسر بشكل يومي وذلك كي يمتص جسده حرارة الشمس الضرورية لسلامته وللمحافظة على نشاطه. “فهنا ، كما ترى يا خويا، يبقى النهار ودودًا ومتمردًا على الحصار ؛ والشمس تشرق فلسطينية كما كانت على طول مسيرتنا ؛ فهذه الشمس هي العبرة ، ونحن مثلها كنا منبع الأمل وكنا مصدر القلق وسنبقى هكذا رغم المؤامرات والظلم والحصار”.
أصغيت للقهر وللشكوى وهما تفلتان من بين حروف الحزم ، وتمنيت لو نصير، في تلك الساعة، غيمتين أو نجمتين فنحلق في المدى. فاجأني وعرض أمامي صورة لتقرير كان الصحفي المعروف ” ألوف بن” قد نشره في جريدة “هآرتس” الإسرائيلية، وفيه يؤكد على أن المحكمة الدولية في هاغ ستدين إسرائيل بسبب اقترافها جرائم حرب تتعلق ببناء جدار الفصل العنصري وببنائها المستعمرات داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة؛ وهذا كله بناء على معلوماته الوثيقة كما كتب.
” معقولة..معقولة .. الكلام دا صح يا چواد ؟ ” سألني كمن ينتظر حبل النجاة، وصمت كالجمر.
قرأت الخبر فوافقت على ما جاء فيه، فألوف بن هو صحفي يحترم ما يكتب ولديه مصادر مطّلعة في إسرائيل وفي دول أخرى، علاوة على احترام جريدة “هآرتس” ، غالبًا، لما تنشره من أخبار خاصة في أمور خطيرة وهامة. ثم أضفت بأنّ مسوّغات القرار ، كما ساقها الصحفي ، تبدو متماسكة ومنطقية وتتبنى الرواية الفلسطينية العادلة.
شرحت موقفي بوضوح وأضفت ببعض الدعابة وقلت “في النهاية، يا أبا عمار ، فنحن نؤمن بعدالة قضيتنا وبصحة ادعاءاتنا وبأننا على حق مبين، فلماذا هذا الاستهجان؟ ” نظر إلي ، وهو سيّد هذه المناكفات الخفيفة ، وتمتم: طبعًا.. طبعًا.. طبعًا.
لم يتحرك طابور السيارات الذي كان واقفًا أمامي بالمرة. فتحت شباك سيارتي واستنجدت برجل شرطة كان يحاول أن ” يقسطر” شرايين رام الله المسدودة.
“متى سينتهي الحفل؟ ” سألته فنظر إليّ بغرابة وأجابني بنبرة سخط، معتقدًا أنني أتهكم. ” أي حفل يا أستاذ؟ هذه مظاهرة ضد قانون الضمان الاجتماعي، ألا تسمع الهتافات؟” اعتذرت منه مختصرًا ، دون ابلاغه عن “حسن ظني” في الجماهير العريضة، وطلبت أن يوجهني إلى مخرج باتجاه القدس، ففعل …
عدنا في المساء إلى رام الله لنلتقي أصحابًا حافظوا وحافظنا على صداقة نعتبرها كنزنا في هذا الزمن الصديء.
سافرنا بجانب الجدار القبيح الذي يندلق من حلق بيت-حنينا ، حيّنا المقدسي، ويتعرج كثعابين خرافية بين بيوت الفلسطينيين: جدار من باطون عار ، تنفر منه تضاريس المكان، فيرتفع كدخان الذبائح نحو سماء غافية.
كان ابو عمار معي في السيارة وكنت استحضر حديثه عن الشمس. حاولت أن أقتفي آثار الأمل الذي زرعه في أرض اليباب، وحاولت أن أهتدي إلى “خيط نايه”؛ ففي غداة لقائي به فوق ذلك الجسر الحزين، وكما توقعت “هأرتس” ، أصدرت، في التاسع من تموز عام 2004 ، المحكمة في هاغ قرارها/توصيتها الدامغة ضد ممارسات إسرائيل بحق الارض الفلسطينية وبحق شعبها.
أذكر كيف كان ذلك اليوم في المقاطعة يومًا عظيمًا وكيف رقص فيه “الوالد” كما لم يرقص أمام من جمعهم من قادة الفصائل.
جلس على رأس الطاولة وأمامه امتدت فلسطين بكامل زيتونها ، وبدأ يجري اتصالاته، على مسمع من حضروا، مع معظم “أشقائه” من القادة العرب ومع كثيرين من قادة العالم.
لم يسعه المكان؛ فلقد شعر كيف سحق بصموده رأس الأفعى وكيف داس بقدميه ظهر الحصار.
تركناه يومها وهو مشتعل كقرص الشمس، وقّادًا مضيئًا، دون أن نعرف أنه كان يستعدّ لرحلة شتائه القاسية، التي كانت رحلته الأخيرة نحو شمسه الودودة الدافئة.
التقينا وأصدقاءنا في المطعم. رام الله في الليل تصير كأبهى العرائس وسيدة المرافيء البعيدة. ليلها يضج بالسحر وبعوّاده الذين يوهموك إنك في بلاد العجائب والخيال. تنطلق من حاناتها الأغاني ويتحلق الوطن طاولاتها فتختلط الفواصل بالفصائل ويمتليء الفضاء برذاذ التفاح والخوخ والنعنع. رام الله مثل تلك الغريبة التي تتركك بين التباسات الورد والشوك ؛ ليلها يزهر كأندلس ويزيح عطرها عتمة النهار ليبقيك على شوق.
لم أسرد أمام أصدقائي ما حصل معي في بداية النهار ؛ فلقد أصغينا مضطرين لحوار ساخن تطوّر بين نزلاء طاولة مجاورة لطاولتنا حيث فهمنا أنه بدأ عندما تساءل شاب في أوّل عشرينيّاته ماذا بقي من ياسر عرفات اليوم ؟
لم نتابع جميع تفاصيل الحوار، فما سمعناه كان حزينًا وكافيًا.
أول المحاورين كان شابٌ حاول اختصار الحكاية بحزم، فأعلن، وهو يشفط سيجارة المالبورو حتى أخمصها، أنّ “عرفات كان دكتاتورًا” ؛ بينما قاطعه آخر ، يلبس قميصًا مكتوباً عليه “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، فحاول أن يشرح بنبرة تشبه فقه المثقفين اليساريين والثوريين، فقال: “لا بل هو أفظع من هيك .. لقد كان عرفات سبب كل هزائمنا ومصائبنا”.
لم ننتبه لنهاية نظريته، فلقد قاطعته صبية رفعت سبابتها الممنكرة بالباذنجاني وأخرجت من صدرها سحابة كلها ” فخفخينا” وأكدت لأصحابها أنها لا تحب عرفات، فهو ليس على “مودها”.
كنا هناك لنحتفل بمناسبة يوم زواج الصديقين اللذين تعارفا قبل أربعة عقود، يوم كان للثورة رجال وللنضال قلب، ويوم كان الحب خاليًا من النيكوتين، يعيش في جفون الندى.
فماذا يا فلسطين بقي من تلك الثورة ؟ وماذا غير الذكرى بقي من أبي عمار ؟