ابتكر المثقفون في منطقتنا (فلسطين الأردن سوريا ولبنان والعراق والكويت)، مصطلح “المشرقية” قبل قرون كثيرة ومن ثم طبّقوه في حذافيره، قبل أن تسمع أوروبا به أصلا.
وهذا المصطلح، يعني الانفتاح على الاخرين أولا، وثانيا وضع الانسان في المركز، وثالثا ان يُعتبر تنوع المجتمع غنى، ورابعا الحداثة، التي تركّز على تحرر الفرد من كل شيء واستقلاله، خصوصا من “سطوة الدين والسياسة وحتى الطائفية والعائلية”.
وانتهج الشرق مسلك “المشرقية” طوال هذه القرون، حيث عاش السكان وتعايشوا مع بعضهم البعض رغم الاختلاف، حتى وقع السكان في المشاكل.
وأبرز هذه المشاكل هي الانطواء والتقوقع على الذات، وهو ما تعيشه هذه الدول اليوم، على الرغم من انها تتميز بتنوع ديني وعرقي ولغوي. ولعل أهم أسباب انطواء سكان المشرق على بعضهم البعض، هو فشلهم بمقاومة مشروع الدول الاستعمارية بإقامة إسرائيل وسطهم، ونحن نعيش حتى الان بهذا الانطواء.
اما المشكلة الثانية، فهي غياب الحسّ النقدي للدين، على عكس الغرب، الذي قطع شوطا طويلا في هذا المضمار، ليكون أحد أسباب تقدمه. للأسف الشديد، فإن الدين في المشرق، ما برح أن سيطر على العقل (الذي من المفروض أن يُحرر بموجب الحداثة “المشرقية”)، ومنع التفاهم والتعاون بين مختلف الطوائف في المشرق، وخلقتجمّعات يخاف بعضها من بعض، بعكس ما جاءت “المشرقية” به.
وإذا أردنا الصراحة، فإن الشرق سيبقى رهين الصراعات الدينية، كما عاشته أوروبا في حرب الثلاثين سنة بين البروتستانت (الإصلاحيين) والكاثوليك. وحينما نسأل أنفسنا كيف انتهت الحروب هناك؟، فإن الجواب سيكون: عندما بدأوا بإخضاع الدين إلى قراءة نقدية وتحليلية، لوضعه في إطاره الصحيح.
أما المشكلة الأخرى فهي الولاء، الذي يجب ان يكون أولا للدولة وليس للطائفة او العائلة، ولكن في دولنا، يعيش الطفل حالة من الانفصام، ففي المدرسة يعلموه الولاء للدولة، ولكن سرعان ما يعود الى البيت، حيث يلتقط الولاء الى الطائفة والعائلة، وانا أرى ان العائلة هي التي يجب ان تُغير التصرف، وتشدد على تلقين الطفل ليكون منتميا لوطنه.
وما يزيد الطين بلة في دول “المشرقية”، ان رجلا السياسة والدين، يحتميان في طائفتهما، الأول السياسية والثاني الدينية، وإذا مسست بهذا السياسي أو رجل الدين، تصبح وكأنك مسست بطائفته أو بدينه. حتى أضحت الطائفة والدين مرجعية وجدار حماية.
والسبب بذلك، كما رأه بعض المستشرقين، هو انه عندما سقط الاتحاد السوفياتي، لم يعد لدول المشرقية أية مرجعية، ولم يبقَ لها سوى المرجعية الدينية، المرجعية العرقية والمرجعية اللغوية لتتحصن بها، كالكرد في العراق مثلا.
وبما اننا نتحدث عن الكرد، فإنني أرى بانه علينا ان ندرك، انه إذا لم نتوصل إلى احترام خصوصيات هذه المجتمعات الصغيرة في داخلنا، سيبقى التدخّل الأجنبي أمراً سهلاً في بلادنا، ولقطع الطريق على ذلك، يُحبذ ان نكوّن “كانتونات ودودة” مع بعضها البعض عبر الحوار.