قد يستهجن الكثيرون أنني اخترت أن تكون رسالتي في نهاية هذا العام موجهة للاعب الكرة المصري محمد صلاح ؛ فعندنا في فلسطين عشرات العناوين الأجدر منها لتكون قفلةَ عامٍ مُدبر، تنذر تداعياته بعام مقبل سيكون أسوأ وأخطر.
بدأت حكاية هذه الرسالة عندما التقيت، قبل يومين، في مدينة حيفا، بالأستاذ الجليل، ابن مدينة شفا عمرو، إلياس جبور ، في عزاء الراحل البروفيسور بطرس أبو منه، ابن مدينة اللد؛ وهما علمان من أعلام فلسطين الكثر ؛ واحد رحل وكانت تباريح التاريخ قد أغوته فتبحّر في ثناياه حتى صار فيها معلّمًا ؛ وثان ما زال يمضي على دروب الأباء الكرماء ، أصحاب الفطنة وصنّاع الصمود والأمل، فندعو له بطول العمر وبمزيد من العطاء.
سألته كيف يرى أوضاعنا ونحن مقبلون في شهر نيسان القادم على انتخابات الكنيست الاسرائيلي، خاصة وقد حصل ما حصل في انتخابات المجالس البلدية والمحلية التي جرت في اكتوبر المنصرم ، فقال : “المقبلات أكثر غَثَا”، وتأنى، كمن عرك أذن الحياة، ثم عبّر عن خوفه وعن قلقه لأننا نمضي نحو المجهول، ولأننا لم نتعلم من دروس التاريخ، ما جرى منه قبل رسالة بلفور وما تلاها من مواقف الدول عامة وليس الانكليز وحدهم ومن معهم من قيادات عربية أشبعونا سرابا وأمطرونا قيحًا.
لم يكن وصولنا، بعد ذلك، إلى قضية اللاعب محمد صلاح صعبًا، لأنها كشفت مجددًا وجهًا آخر من تعقيدات وجودنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، وعرّت حقيقة علاقاتنا المركبة والملتبسة مع “الأشقاء” على المستويين الفردي والمجتمعي. لقد وعدته أن أنهي عامي برسالة أطيّرها إلى الفرعوني الأحمر.
رسالة إلى محمد صلاح،
نقلت مواقع الأخبار مؤخرًا تصريحًا على لسانك جاء فيه، إن كان صحيحا، أنك تهدد بالرحيل عن فريق ليفربول الانكليزي لكرة القدم اذا ضمّت إدارته الى صفوفه اللاعب مؤنس دبور، لانه يلعب، كمواطن إسرائيلي، في صفوف منتخب إسرائيل الوطني رغم كونه عربيًا فلسطينيًا ومسلمًا.
لست متأكدًا ماذا تعرف أنت وملايين العرب عنا نحن “فلسطينيي ال ٤٨” الباقين ، رغم أنف القمع والمؤمرات، في عشرات المدن والقرى العربية، وماذا أخبروكم عن قصتنا الحزينة حين نمنا، ذات صيف، على وطن وصحونا على نكبة، لنصير “مواطنين” غير مرغوب فينا في دولة صار اسمها إسرائيل.
لا تتوقع مني أن أوجز لك، في عجالة، تفاصيل تاريخ مثلث الأضلاع، كان بينها ما درجنا على تسميتها “قيادات الرجعيات العربية” التي امتلكت ، قبل عام النكبة أو بعدها، كيانات كانت أو تحوّلت إلى دول فاشلة ولم تمارس دور “الدول الحديثة” كما تمارسه، مثلًا، بريطانيا التي أصبحتَ أنت فيها نجمًا محبوبًا وبطلًا تهتف باسمه الجموع الانكليزية.
لا أعرف، يا محمد، ماذا علّموكم في المدارس عن فلسطين التي كانت قبلة العرب؟ عن أهلها الذين هابتهم أعواد المشانق وعن سمرة ابنائها التي تشبه سمرتك؛ فهل أخبروكم كيف حميناها نحن، عشاق القصائد وصناع الأمل، من كامل الضياع ؟
ليس صدفةً أن يستفز تصريحك، ان كان ورد كما ورد ، آلاف الفلسطينيين، خاصة أولئك الذين صاروا يحبون، من أجلك، فريق الشياطين الحمر “ليفربول” وهو يتصدّر دوري بريطانيا التي، اذا كنت تجهل، كانت ولم تزل سيدة العهر وأم معظم مصائب العرب وقابلة نكباتنا وولّادة الأسى وكل الوجع.
يحبونك في بريطانيا، رغم اسمك ولحيتك، لأنك في أعينهم ساحر الكرة أو من أجل الهدف، ويهتفون لك، رغم انحنائك لربك على أرض الملاعب، إذا أهديتهم النصر يا ابن العرب ؛ لكننا نحبّك، نحن في فلسطين، بدون “هدف” ولأنك منا ولنا، حتى صرنا نحب فريقك رغم كونه واجهة دولة ما زالت تفاخر بخساسة “بلفورها” وتزهو بأمجاد ” ثاتشرها” وتدعم تلون “ميّها”.
أراهن أنك لا تعرف، مثل ملايين العرب، عن فلسطين إلا ما قصّه لكم الغمام ووشت به دموع الندى ؛ ولم تقرأ عن تلك الجنازة “التي طلعت من سجن عكا” ولا كيف أردت البنادق من احتموا في كنيسة قرية عيلبون الجليلية ، وحصدت في كفر قاسم أرواح الأبرياء في مجزرة شيطانية؛ فمؤنس هذا الذي ستترك بسببه فريقك هو من سلالات “سرحان” الذي كان يمشي نحو تل الحارثية “حيث ماسورة بترول شقية، تحمل الخير الذي يدفق من أرض الشعوب العربية، لبلاد أجنبية”. فهل عرفت ما كنت تجهل؟ً
أنا لم أسمع بمؤنس قبل ما صار “دبّورًا” في ملاعب الكرة ومشهورًا ربما أقل منك أو مثلك، لكنه، حتمًا، يعبد ما تعبد ويسجد للرب مثلك ويحلم بالضاد ويهدي كل نصر لشعبه ويقبل بعده جبين أمه. فلماذ تستعديه بسبب ذنب لم يقترفه وفي بلاد ستبقيان فيها بطلين غريبين وأسيرين في شباك لن تدوم لكما طويلًا.
قد تكون أنت بنفسك ضحية لما تعلّمتموه في بلادكم عنا ، نحن الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل؛ فبقاؤنا في وطننا كان قد أربك بناة الدولة العبرية وأفسد عليهم إمكانية تحقيق مخططهم الأصلي والفوز “بوطن” خال من سكانه العرب الأصليين؛ لكنه ، في نفس الوقت ، عرّى خديعة من تواطأ مع الانكليز ومن تآمر مع الصهاينة على مستقبل فلسطين وشارك عمليًا في ضياعها.
فمنذ سبعين عامًا ونحن نواجه مخططات إسرائيل التي تستهدف اقتلاعنا من الوطن، ونواجه أيضًا فرية أطلقها أولئك المتآمرون العرب الذين حوّلوا حقيقة بقائنا الى تهمة أسموها زورًا خيانة.
حوصرنا وكان حصار “ذوي القربى” أظلم وأقسى، لكن مصركم بقيت في خواطرنا وكنا نسترق أخبارها من “صوت العرب” وندق الطبول ، كما جاء في النشيد ،على أبوابها ومن أجلها.
كنا، رغم النكبة، نعيش على يقين بأننا والمجد على موعد مهما علا “سلم الجماجم”؛ وكان يكفينا أن نسمع صوت “الجمال” لنذوب مثل عروس في ليل زفافها وننتشي في الصباح، وكنا نبكي حين كانت تقرصه ناموسة.
أحببنا الخميس في مطلع كل شهر، ففيه كانت “الست” تأخذنا صوب النجوم، وكنا نسبح في نيلكم مع كل “همسة حائرة” وننتشي مع “الشيخين” زكريا وامام ونردد مع دنقل “لا تصالح” .
عاش أباؤنا أحرارا رغم تجاهلكم لوجودهم ولصمودهم واختاروا أن يكونوا مصريي الهوى ، عربًا شرفاء، وبقينا نحن الابناء أوفياء على العهد، رغم وجود تلك “السفارة بالعمارة” ورغم الشقاء .
وأخيرًا ،
ذكرناك، كما قلت ، في عزاء الراحل بطرس أبو منه و أنت لا تعرف من يكون هذا الفلسطيني؛ فهو من الذين لم تغرهم وعود البرق فبقي في الوطن .ابن لشكري ولأم من عائلة منيّر اللداوية. كان بيتهم بآخر الطريق التي توصل بين اللد والرملة وكان في حي صغير تسكن فيه عائلات من بيت العمش، فكانوا يسمونه بحي العمش. كان بيتهم من خشب وأبوه كان موظفًا في البريد يعيل بيته بكرامة وبالعرق ..
كان خاله يعمل في مطار اللد الفلسطيني. وفي عام ١٩٤٨ بدأوا يسمعون صوت الرصاص لكنهم لم يشعروا بوجود الخطر، فلقد كانوا مطمئنين لقدوم “فزعات “جيوش العرب. ثم كان العاشر من تموز يوم احتلت قوات “الهاجاناه” مطار اللد الذي سقط رغم حراسته من قبل خمسين محاربًا بقوا لوحدهم ولم يأتهم مدد العرب.
ما أبسط هذه القصة وما أوجعها، فنحن، يا حبيبنا محمد، نطفة من شرف ما زالت تكبر كلما مرت بنا الايام وقست، وسنبقى حراس الكرامة والمعبد، فرجاؤنا ألا تستقوي على من كان لودّك أقرب وأرحم، لأننا ننام ونصلي للرب في مخادعنا أن يحمينا من أصدقائنا ومن أقربائنا فمع أعدائنا نتدبر وحدنا.
واعلم ان الجهل طامة كبرى وانّ الكرامة أكسير الحياة والعقل روحها، فراجع، يا صديقنا، دروس التاريخ ففيها الموعظة والعبر .