منذ الكنيست الأولى ولغاية اليوم ونحن جالسون في العتمة السياسية في إسرائيل، فلا نحن معارضة ولا نحن ائتلاف ولا حتى مواطنين متساوي الحقوق…
من الطرق المتبعة في ترسيخ المبادئ الديمقراطية في المجتمعات متعددة الاعراق، ان توضع أسس دستورية تضمن حقوق جميع الفئات العرقية في الدولة خارج حسابات الأغلبية البرلمانية حتى لا تفرض ما يحلو لها على الأقلية بطريقة مجحفة، أي انه يتم تعطيل حكم الاغلبية البرلمانية في بعض الجوانب التي تحمي الحقوق الاساسية للأقلية. هذا التوافق على مبادئ الشراكة في مجتمع متعدد الاعراق يتم حول ما يعرف بتسمية “الطاولة المستديرة”.
ورغم ان التسمية تبدو مجازية، إلا انها فعلية كذلك، إذ يجلس حول طاولة مستديرة مندوبون عن أعراق مختلفة بشكل متساو، فلا رئيس ولا مرؤوس من اجل وضع اسس الشراكة في خدمة الوطن الواحد وتقاسم خيراته وموارده بصورة نسبية.
وبعد ابرام هذه التفاهمات، يتم إدراجها في الدستور او قانون الاساس للدولة، لتكتسب صفة الثبات، لا تتعرض للتغيير حسب اهواء الأغلبية السياسية، او تعتبر “مقدسة” لا يمسها المشرعون وفقا لنظرتهم الحزبية.
وبعد بلورة هذه المبادئ وتدوينها في الدستور، يستطيع ممثلو الاقلية العرقية ان يخوضوا الانتخابات العامة للبرلمان وفقا لها.
انها طريقة تتبعها مجتمعات مؤلفة من عدة اعراق بغية حماية حقوق الأقلية فيها من عبث السياسيين المناوئين لها، تماما كما هو الحال في إسرائيل، إذ لا يجوز التخفي وراء ستار الديمقراطية وإطلاق رسن الأغلبية للتسلط على الأقلية وسلبها حقوقها عبر التصويت الشكلي في البرلمان.
وعليه فإن حكم الأغلبية الذي تنص عليه الديمقراطية بدون حماية حقوق الأقلية، لا بد سيسفر عن تجريد الاقلية من حقوقها كما حدث في إسرائيل في “قانون القومية”. فهو قانون ديمقراطي من حيث طريقة تشريعه، عنصري في جوهره.
ولهذا ومنعا لهيمنة الأغلبية على المشهد السياسي والاجتماعي، ولسحب إمكانية هدر حقوق الأقلية، يتوجب أولا التفاوض حول “طاولة مستديرة” مع كافة العناصر ذات الصلة ووضع أسس تضمن حقوق أساسية لكافة عناصر المجتمع.
من هنا فإنني ارى ضرورة الانسحاب من لعبة الانتخابات البرلمانية في إسرائيل لأنها اثبتت عدم جدواها منذ عشرات السنين، بل تحولت مشاركتنا في هذه الانتخابات الى سباق حزبي وطموح شخصي لهذا القيادي او ذاك، وفوز المرشح يصبح الإنجاز الأوحد، بينما حقوق العامة تبقى على حالها إن لم تتضاءل كما شهدنا في الآونة الاخيرة.
ولتوضيح العقم السياسي لممثلينا في الكنيست، من غير المعقول ان تكون القوة البرلمانية الثالثة في إسرائيل، “المشتركة” عاجزة عن منع هدم ولو منزل مواطن لمجرد انه شيده في ارضه بدون ترخيص من لجنة التنظيم! ومن غير المعقول ان يكون 20% من مواطني الدولة يتعرضون للتمييز العنصري الوقح لدرجة ان الزواج من ابنة العم في الجانب الآخر للخط الأخضر، يتحول الى قضية امنية ديمغرافية تؤرق الاسرة الوادعة بتهديد الترحيل ليل نهار. من غير المعقول أن تحجب عن المواطن العربي وظائف ومراكز وخدمات وحتى مجرد السكن في بلدات “النقاء العرقي”، وقس على ذلك عشرات الحالات التي تثير الخجل في المجتمعات المتحضرة لو لم تكن إسرائيل!
نعم، “المشتركة” وبالأدوات المتاحة امامها، لا تستطيع ان تحقق شيئا يذكر على المسار القومي الوطني، وجل ما بوسعها القيام به هو الانضمام الى مبادرات قوانين مدنية هي بالأساس مطلب المجتمع اليهودي قبل كل شيء، وبالتالي يستفيد منها المجتمع العربي كذلك. ولكن لن تستطيع “المشتركة”، حتى وإن ضاعفت قوتها، ان تملي رؤيتها القومية الوطنية على المشهد السياسي بهدف انتشال المواطن العربي من مكانته المتدنية كمواطن في هذه الدولة.
علينا التسلح بالشجاعة الكافية والاعتراف امام أنفسنا أولا وأمام جماهيرنا، بأننا فشلنا في اختيار الدرب، وإننا لم نتقدم شبرا واحدا منذ الكنيست الأولى ولغاية اليوم. ومن يحاول نسب هذا الإنجاز او ذاك الى نفسه او الى قيادته، فإنما يحاول الاستيلاء على ضرورة حتمية كان لها ان تحدث حتى لو لم يكن في الكنيست أي نائب عربي.
وفي الختام، أدرك تماما ان النشطاء الحزبيين سيعترضون على هذا، لأنه يسلبهم كثيرا من معاني انتمائهم الحزبي، كما أدرك ان الانتخابات البرلمانية هي فرصتهم المثلى لإثبات قدراتهم التنظيمية، لدرجة بات النواب ممثلين لأحزابهم وليس لناخبيهم.