لم يعلن حتى تاريخ كتابة هذه السطور عن اعادة تشكيل القائمة المشتركة، رغم ما ورد من تطمينات على ألسنة من تحدث في الاعلام باسم جميع مركباتها، حيث أكد هؤلاء أن كل اللقاءات، سواء كانت ثنائية أم رباعية، جرت في أجواء ايجابية وبنوايا تؤكد على الإلتزام بإعادة بناء القائمة المشتركة استجابة لإرادة أبناء الشعب واستعادة لثقتهم، ومن أجل مواجهة تحديات المرحلة.
تدفعني كل المؤشرات الموضوعية باتجاه المراهنة على أن إعلان الأربعة، مهما تأخر ، سوف يتم، لا لأنّهم تغيّروا أو “بدّلوا تبديلا” بل لأنهم جرّبوا معنى الرقص على حبال النار وأنت تتقلى من غير منطاد يحميك من السقوط مباشرة في فوهة البركان.
يعتقد كثيرون بأن فشل نتنياهو في تركيب حكومته الأخيرة قد أتاح للقادة العرب فرصة تاريخية لبناء “قائمة الارادة الشعبية” من جديد، وهي التي بعودتها ستكفل لهم ولنا زهور الجنة السياسية ؛ لكنني أختلف مع هؤلاء وأصر أن الهوّة الموجودة بين الجماهير وبين قادتها البرلمانيين هي أعرض من حزام قائمة مشتركة وأعمق من نَفَس القبيلة المشتهى. والى ذلك لنا عودة.
لن تُفتح لنا، كمواطنين في دولة يصر معظم قادتها على استعدائنا العرقي، أبواب المستقبل الآمن إلا إذا قرعناها بأكفّ صحيحة وواثقة، وإذا واجهنا من يحاول أن يوصدها في وجوهنا بحنكة وبحكمة وبإصرار عار من دهون الرياء السياسي ومواده التجميلية الواهية.
فهل هذا ما سيفعله قادة الأحزاب الأربعة قبل أن يعلنوا عن اتفاقهم حول ترتيب المقاعد ؟ وهل فعلًا سينجحون بوضع برنامج عمل سياسي يمكّنهم من تأدية واجباتهم السياسية في حيّزات محدودة، من أصلها، داخل البرلمان الصهيوني، بخلاف نضالهم من أجل تثبيت حقوق المواطنين العرب المدنية في الساحة المعدّة، من أصلها، لهذه المواجهة والمهام ؟
لن أقامر على هذه المسألة، فتجارب الماضي علمتني أن أبقى حذرًا وقنوعا وألا “أحلق شاربي وأجازف”، لكنني، رغم الخيبة، سأعاند حدسي وأنتظر قلقًا على “سبع وسائد محشوة بالسحاب”.
لا شك لديّ بأن معظم من تطرق إلى عمل القائمة المشتركة، سواء بالنقد أو بالنصيحة، شعر، منذ ولادتها، بوجود ذلك الخلل الجوهري والبنيوي، الذي، رغم قصر مدة عملها وما تخلله من انجازات محدودة ، أظهر مدى نحولها وعرّى خناجرها المخبأة تحت العمائم وفي صدور عباءات القصب. وقد يكون ما قاله جمال زحالقه، النائب السابق عن حزب التجمع، قبل أيام، خير عاكس لهذه المشاعر الدفينة، فهو، كباقي ممثلي الأحزاب المفاوضة، أكد على نقاوة أجواء اللقاءات التي تمّت مؤخرًا ، لكنه نبّه “أنهم قرروا البدء في “الحوار بالاتفاق على البرنامج السياسي للقائمة المشتركة وهيكلتها وبنائها على أسس متينة ..”
لا شك أنها محاولة منه لطمأنة الجماهير “المقروصة” ولإقناعها بضرورة دعم المشتركة لأنها ستكون هذه المرة “غير شكل” ; فلندعو لهم بحسن الختام، أو على طريقة عاشق ابنة العنب “نرجو الإله ونخشى طير ناباذا”.
تقع على عاتق الفرقاء في المشتركة مسؤولية جسيمة وخطيرة كبرى، لأنها على جميع الأحوال ، ستسجل كإحدى المفارقات الكبرى في تاريخ العمل السياسي بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ لكنها ستعادل ، في المقابل، هزيمة في حال فشلهم بإعادة لحمتها ونجاح عملها مجددًا ؛ فقبل أربعة أعوام وعندما “استجابت” القيادات لرغبات جماهيرها ، شعر الناس، بشكل تلقائي وطبيعي، بأن شراكة “الأخوة الأعداء” ستؤمن لهم” أطواق النجاة ” وستزوّدهم بدروع واقية وتمضي بهم نحو شطآن السلامة؛ وعليه فعلى قدر وجبة الأمل يكون الوجع وتسطو الخيبة ويجنّ التيه.
لا أعرف كيف سيجسّر الفرقاء على الخلافات العقائدية والجوهرية القائمة بينهم، وأوكد أن من أهمّها، كما كتبت في الماضي، هي مسألة النضال المشترك مع القوى اليهودية التي تقف ضد الاحتلال الاسرائيلي، وتدعم حقوقنا المدنية بدون تحفظ أو اشتراط؛ فهذه القضية ليست شكلية بالمرة لأنها تحدد ميادين نضالاتنا وأساليبها، وتهدينا الى من هم أعداؤنا ومن حلفاؤنا، سيان من كان منهم بيننا أو من يجلسون على عروش ممالكهم وإماراتهم أو يستبدّون، كسلاطين المذابح، بشعوبهم.
لم يمهلنا ايفيت ليبرمان فرصة لنختبر تجرية “الرأسين”، وذلك بعد أن “خلق” لنا جسدًا مُغريًا بأربعة رؤوس. لقد أفشل ليبرمان زميله نتنياهو ومنعه من تركيب حكومة، فأعادنا مرة أخرى إلى واقعنا الطيني الملتبس، الذي انتج عالمًا من التابوهات تتحكم فيه “أصنام” مقدّسة وتدير معاركها، كما في الأساطير ، وتضع مساطرها لعامة الناس، فمن يقبلها يعش ولو كان على حدود البؤس، ومن يسائلها يحارب كما في الأسفار السوداء، ومن يرفضها يحاسب كما حاسبت محاكم التفتيش كل من كان حرًا ولم يرض إلا أن يكون عقله مولاه.
لقد عشنا قبل “المشتركة” وكانت حياتنا السياسية ثرية وواعدة، وذلك رغم ما رافقها من عثرات ونكوص وخسائر؛ لكنهم، وفي ليلة ظلماء، نسجوا لنا رواية “الشعب يريد المشتركة” فغدت هذه شعارات السماء المقدسة وضعوها على رقابنا أنشوطة مجدولة بالوهم، مَن شدّها قتلته، ومَن حلّها أسقطته، ومن أبقاها أبقته حتى لو عاش كسيحًا.
لم أكن يومًا ولست اليوم ضد “المشتركة” بل ناديت علنًا وجهارًا بدعمها؛ لكنني انتقدتها عندما رأيت منها اعوجاجًا وكنت مدفوعًا برغبتي وبهاجس تحويلها إلى إطار جبهوي سياسي عريض قادر على “رص الصفوف” مع من يقف معنا من يهود يؤمنون بدعم حقوقنا الأساسية، وفي طليعتها حقنا في الحياة الكريمة وفي البقاء الآمن وفوق أرضنا/وطننا.
لقد قلت مرٌة ان “القائمة المشتركة” ليست بقرة مقدسة، فحاجتنا اليها تكون بمقدار ما تقدّمه من أجل صمودنا وفي سبيل مواجهتنا لسياسات اسرائيل الشيطانية ضدنا؛ مع ذلك يجب الا يمنع وجودها تطوير أو إقامة أطر سياسية أو حزبية جديدة تكون قادرة على ضخ دعمها في الاتجاه الصحيح.
أقول هذا وأعي ضرورة تنبّهنا وتمييزنا بين من يعلن كلمة حق أو موقف يراد بها باطل، وبين من ينشط ويجتهد ويبادر وهو مدفوع بوطنيته الحقة وبغيرته المثبتة على أبناء شعبه ومصالحهم.
لن أتطرق هنا الى نوايا بعض الأكاديميين والمثقفين الذين أعلنوا عن ممارسة حقهم وعزمهم على إقامة أحزاب جديدة، أو عن رغبتهم يالترشح مع القائمة المشتركة، كشرط لدعمها أو الى لجوئهم، في حالة فشلهم، الى خيار الحزب الجديد؛ فمحاولات أسعد غانم ورياض اغبارية، أو مساعي مجموعات أخرى لإقامة حزب عربي-يهودي جديد، لم تكن هي الأولى في هذا المضمار، ذلك أننا شهدنا قبلها محاولات كثيرة، أذكر منها مثلاً الاعلان عن إقامة حزب “الوفاء والاصلاح” الإسلامي في العام 2016 والذي تم بحضور وبمباركة محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا.
لن تحِلّ حملات التقريع والتعنيف وتوبيخ تلك الشخصيات والأعلام في ميادينها الأكاديمية والشعبية أزمة الاحزاب وعوارض تكلس هياكلها ونفاد قيمة عقائدها، ولن ينقذهم التهكم على هؤلاء المفكرين وحملة الشهادات العليا؛ فجميعنا يعلم أن “الحالة السياسية” القائمة بين الجماهير العربية في اسرائيل تمر بأزمة قاتلة، ولكم نوّهنا في الماضي إلى اعراضها، وحذّرنا من نتائجها. ومع تقديرنا لدور ومكانة القائمة المشتركة ، فلقد تبيّن لنا، بالتجرية وبالبرهان، أنها، لوحدها غير قادرة على مواجهة الداء والنوائب، هذا إذا لم تتحول هي، كما شاهدنا، الى مولد للخيبات وإلى عبء يجثم على صدور هذه الاقلية، التي عرفت أن تصمد قبلها وبدونها وتفتش اليوم كيف “الوصول إلى حماها وهل في اليد حيلة”.
سنعود الى معالجة تلك المبادرات السياسية والحزبية اللافتة في وقت لاحق، وذلك كي نعطي، في هذه الأثناء، جميع الفرقاء فرصة للتوصل إلى مخارج واضحة عساها تضمن وحدتهم الصحيحة وتمكنهم من استعادة بعض ثقة الجماهير، فهي التي كانت وستبقى أم البدايات وأم النهايات.