تغطيات العنف بين المستحقات والمحاذير في الصحافة العربية- خسرنا القرية ولم نربح المدينة… لكنها على الطريق
يتساءل زملاء ومهتمون ماهي مواصفات التغطية الصحفية السليمة لأحداث العنف والجريمة ؟ هل وكيف ومتى ننشر وهل تتعارض الهوية والاعتبارات المهنية مع تلك الوطنية ؟ وهناك من يسأل هل يسبب النشر حول الجرائم المتتالية للمزيد منها ؟ السؤال هل كانت الجريمة تستفحل وتنتشر كالنار في الشارع العربي بحال لم تكن هذه التغطيات المستفيضة والفورية في وسائل الإعلام ؟ هل حقا هناك أي علاقة سببية ؟ السؤال طبعا ليس هل ننشر بل كيف وباي نوايا وباس وعي واي ادوات.
عن ذلك وغيرها من الأسئلة ينظم مركز ” إعلام ” ندوة غدا الجمعة بمشاركة صحفيين ومهتمين وفي محاولة لإثراء النقاش بهذا المضمار نسجل البرقيات التالية. أولا لابأس من توضيح الواضح بأن النشر عما يجري ولا يجري هو واجب مهني أساسي ينطبق أيضا على قضية تفشي الجريمة داخل البلدات العربية بتواطؤ الشرطة. أداء هذا الواجب يتصدر مستحقات التغطية الصحفية وكنس الواقع البشع والخطير تحت السجادة لن يجعله أجمل،بالعكس والتغاضي عما يحصل خوفا أو حرصا على” الصورة المجتمعية العامة ” فيه نوايا طيبة وشهامة وطنية لكنه يستبطن خطأ مهنيا فادحا هناك من يعتبره ” خيانة ” للمهنة والأهم أنه ليس مفيدا في مكافحة الجريمة والمجرمين. لكن ومقابل هذا المستحق هناك عدة محاذير ينبغي أن تؤخذ بالحسبان عند كل تغطية كي لا تصبح هذه عبئا إضافيا فحملنا ثقيل أصلا،وكل لا تصيب سهامنا من حيث لا ندري المضادات الحيوية والخلايا السليمة في جسمنا الجماعي مقابل هذه الجراثيم والفيروسات المهددة. من هذه المحاذير الفصل بين العنف وبين الجريمة وبين عصابات الإجرام مع الإشارة الدائمة في كل تغطية للمسؤولية الذاتية المجتمعية مقابل مسؤولية الشرطة وسائر مؤسسات تطبيق القانون وحفظ النظام العام. اقتلاع ثقافة العنف والعدوانية بأنواعها وتنمية ثقافة سلمية بديلة تتطلب تغييرا مجتمعيا حقيقيا وهي مسؤولية كل من فيه عقل وشرف وغيرة وكرامة وهذا يحتاج بالتزامن لتغييرات في مقدار ونوعية مضامين وفعاليات التربية في المدارس مبكرا مثلما أنها تحتاج لردع الشرطة والمحاكم. وإزاء الجرائم من المتاجرة بالسلاح وحيازته واستخدامه وإلى السوق السوداء والتهديد والخاوة وجرائم القتل فإن دور الشرطة حاسم وأساسي ولا يمكن استبداله بـ ” التربية ” بالمنظور القريب. لذا فالتغطية الصحفية يفترض أن تكون واعية لما يجري وما يلزم بالمنظورين القريب والبعيد من هذه النواحي وأن ينعكس هذا الوعي بالتفاصيل وقبل ذلك بالتأطير والعناوين. وهذا يفضي لمحاذير أخرى في التغطيات منها استحضار الإطار والسياق العامين المناسبين فالمجتمع العربي زاد عددا وتضاعف عشر مرات منذ نكبة 1948 حتى بلغ لـ مليون ونصف المليون نسمة. وثمة توافق لدى الباحثين الاجتماعيين على أن القضية الأصلية المطروحة ( استفحال العنف والجريمة لها جذور تاريخية تعود لتبدل الفلسطينيين في إسرائيل من مجتمع فلاحي ريفي لبرجوازي مديني خاصة في الناحية الاستهلاكية وقد خسروا القرية ولم يربحوا المدينة بعد) مرتبطة بضعف الهوية وباستشراء السلوك العنيف. وهذا طبعا سلوك مكتسب وغير مرتبط بثقافة محددة بخلاف مزاعم وزير الشرطة بدلائل كثيرة منها أن الثقافات الأوروبية ارتكبت أفظع الجرائم والمجازر في تاريخ البشرية وأن المجتمع العربي الفلسطيني في الضفة الغربية نظيف لحد كبير من الجريمة طبقا لمعطيات الشرطة الفلسطينية( 25 قتيل منذ بدء العام في الضفة التي تعد نحو مليوني نسمة). كما أن معطيات رسمية وإسرائيلية أيضا تفيد بأنه حتى هبة القدس والأقصى عام 2000 كانت الجريمة محصورة جدا في الشارع العربي مما يستدعي تساؤلات عن التوقيت وتزامن انطلاق هذا الانفلات. ومثلما تقتضي المحاذير والمستحقات مسائلة الشرطة ومسؤولي النيابة العامة وجهاز المحاكم حول عدم ردع المجرمين والمتورطين بالعنف فإنها تستدعي بالضرورة استحضار تقارير عربية وإسرائيلية رسمية توجه النقد لقصور الشرطة كتقارير ” مراقب الدولة ” الأخيرة. كذلك يفترض ان تتحلى التقارير الصحفية بالشجاعة المطلوبة لتوجيه النقد لمن هو منا وله صلة بالجريمة والعنف منعاةعلى سبيل المثال تهديدات رئبس بلدية شفاعمرو الخطيرة.
ومن المحاذير الحيوية هنا تحاشي الوقوع في ” اللطم والعويل وجلد الذات الجمعية وتحقيرها” فهذا لا يتجاوز فشة خلق ولا يوفر ذرة من الحلول بل يزيد الطين بلة فإذا كانت أوساط صحفية لا ترى بتعزيز المناعة الذاتية المجتمعية وحمايتها فأضعف الإيمان ألا تشارك في ضربها. وهذا يعني بالضرورة استحضار ولو بجملة المسعي الحقيقي المشرف لفعاليات المجتمع في مواجهة هذا الغول وإلزام سلطات القانون بالتحرك للقيام بواجبها الدستوري ومسائلتها ونقدها. منذ بداية المشوار قبل سنوات طويلة بقيت شخصيا وفيّا لها،لـ صاحبة الجلالة، مسائلا وناقدا لكني أخذت بالحسبان مصالح عليا تتعلق بالمجتمع أحيانا لأننا لا نعيش في حالة طبيعية مما يلزم أحيانا أن تؤخذ اعتبارات أخرى تدفع الشر وتدرأ المفاسد بالتغطيات الصحفية أو على الأقل أن تتجند لتكون ما يتجاوز حدود عمل الصحفي من خلال المساهمة في التعبئة والتعميم المساند لفعاليات مكافحة الجريمة مثلا وغيرنا من الصحفيين في الجانب الآخر يتجند لإسناد حرب لا على جريمة ومجرمين فحسب بل على شعب آخر ويوفر تبريرات لمأس متكررة تكابدها غزة على سبيل المثال. في السطر الأخير التغطيات الصحفية للجريمة وللنزيف ومساعي تضميده أو إغلاقه لابد أن تحتكم لميزان الذهب بالحذر وباستحضار كل ما يجب كي لا تكون سهما يصيب المناعة الذاتية لمجتمعنا وهو أغلى ما يملكه وبدونه لن يهزم هذا الغول وإن ” أكلنا ” سيأكل فينا الروح والعمل الجماعي وستفقد السياسة معناها بل كل شيء سيبدو خاويا يصبح المجتمع ” حارة كل من إيده له “.
وهذا لا يتناقض مع الحاجة الملحة كـ الأوكسجين لنقد الإعوجاج والقصورات فينا،بالعكس فهي امتحان الصحافة لأن توجيه النقد لـ رئيس سلطة محلية لا يقل أهمية وأسهل من توجيهه لنتنياهو وفي المقابل يحظر تهميش قصص النجاح والمكاسب الفردية والجماعية المتراكمة في سجلاتنا وما أكثرها. عندئذ تبقى تغطيات العنف والجريمة بحجمها وبصورتها لا أن تكون هي واجهة كل شيء وتصيبنا بجراح خطيرة.
وإلى اللقاء غدا وللحديث تتمة.