بدأنا نراجع تفاصيل الالتماس الذي قدمته الوحدة القانونية في “هيئة شؤون الأسرى والمحررين”، باسم الأسير سامي أبو دياك؛ بعد أن “بشّرتنا” سكرتارية “محكمة العدل العليا” الاسرائيلية، صباح الاثنين الفائت، بقبول الطلب وتقديم موعد الجلسة وتعيينها في الثاني من ديسمبر/كانون أول القادم، بدلا من موعدها الأصلي الذي كان مقررا في السادس من كانون الثاني/ يناير المقبل.
قرأنا، مرّة أخرى، تداعيات القضية، وتحققنا من دقة الوقائع التي أوردناها؛ وتمنّينا أن يصمد جسد الأسير أبو دياك أسبوعا اضافيًا، كيما نمضي إلى معركتنا مع طواحين الهواء الاسرائيلية؛ فعسانا ننجح، باسم الوجع، بإقناع هئية المحكمة بالافراج عن أسير فلسطيني أكله المرض ويعيش أيامه الأخيرة على أمل أن “ينعم” بالموت في حضن والدته وفي أرجاء بيته وتراب قريته.
ولد سامي قبل ثمانية وثلاثين عامًا في قرية “سيلة الظهر”، ففتح عينيه على صباح عبوس، لا يعرف طعم اكتمال الفرح. نشأ في بلدة فلسطينية تجيد، كسائر أخواتها، لغة الغبار؛ ومشى، مثل أترابه، نحو ماض لصيق كظل لشبح غد رمادي كسيح.
هو ابن لجيل تربى، بفطرة الفوضى، على قيم شوّهها الاحتلال، وعلى حالة، كل ما فيها “سائل” وملتبس؛ فلا معنى للحب ولا لصفائه إلا إذا واجه نقيضه الدامي، ولا قيمة للحياة إلا إذا تحققت على عتبات الموت .. موتك أو موت نقيضك.
كان في الثانية والعشرين من عمره عندما قرر دفع حصته في الذود عن شرف الوطن؛ فقتل ثلاثة من عرب “باعوا روحهم وضاعوا” ، حسبما جاء في لائحة اتهامه، وحُكم، في اعقاب ذلك، في محكمة الاحتلال العسكرية لثلاثة مؤبدات وأكثر.
كبر في السجن كما تكبر الأيائل في الأسر؛ عالمهم مدىً من مجازات واخزة، وأيّامهم مجرد انكسارات لأضواء خافتة تبعثها بقايا أرواحهم الحزينة. كان سامي يتغطى بنتف من فجر أبيض ويتنفس تحتها كما يفعل دود القز، فيفيق كل يوم محلقًا على شفرة ضوء ساحر وبعيد.
لم يواجه سامي الأسير عبء السؤال وحيرة الشك، ولم تشغله هواجس العدل الآدمي ولا غضب السماء؛ فالتفكير الرويّ، وانت في حلق اليأس، ترفٌ لا يجيده إلا الفلاسفة والشياطين، لا سيّما إذا كنت مثله، تعيش على أهداب ثورة تقاوم النعاس والخبل.
بدأت صحته تتراجع بشكل ملحوظ في العام 2015؛ وبعد عدة فحوصات وجد الأطباء انسدادًا في أمعائه فأخضعوه لعملية، أوهمتهم بأن حالته في تحسن؛ لكنهم اكتشفوا بعد الانتهاء من الاجراءات المخبرية انه مصاب بسرطان الامعاء، وأن القدر قد قرر، هذه المرّة، أن يتدخل وكأن قضاء الاحتلال كان مجرد طعنة في الهواء.
بعد اعلامنا بسوء وضعه الصحي قمنا، طاقم المحامين، بتقديم طلب للافراج المبكر عنه لاسباب مرضية وخسرنا، كما كنا نتوقع، الجولة الأولى فعاودنا المطالبة بعد عامين. وزودنا اللجنة المتخصصة بمجموعة تقارير أعدّها الاطباء الذين كانوا يعالجونه في المستشفيات الاسرائيلية، وكذلك بعض الاخصائيين الخارجيين الذين توجهنا اليهم، ففحصوه وقرروا أن وضعه قد وصل الى مرحلة حرجة وأن مرض السرطان قد انتشر في عدة أعضاء داخلية من جسده.
استمعت اللجنة لادعاءات المحامين وقرأت التقارير الطبية التي قدمت امامها؛ لكنها، رغم قناعتها بأنه مصاب بالسرطان وبأن احتمالات علاجه وشفائه معدومة، رفضت الافراج عنه بتبنّيها ذرائع نصّتها أياديهم المجبولة من جبص وطين.
وهن جسد سامي بشكل ملحوظ حتى بدا لنا في الزيارات الأخيرة كالظل؛ فقررنا تقديم طلب افراج جديد، الا أنّ ّلجنة الافراجات رفضت التعاطي معه بالمطلق وذلك بمقتضى تعليمات قانون “مكافحة الارهاب” الذي كانت الكنيست قد صادقت عليه في عام 2018 وحظر بموجبه على لجنة الافراجات التعاطي مع طلبات افراج عن الاسرى المحكومين بالسجن المؤبد على خلفية ضلوعهم في عمليات قتل “ارهابية”.
حاولنا التوجه مرة اخرى لتلك اللجنة بادعاء أن ليس للقانون أثر رجعيّ، فقضية الأسير سامي كانت منظورة أمامهم قبل صدور ذلك القانون، الا ان أعضاءها رفضوا حتى مجرد استلام الطلب.
لم يتبقّ أمامنا إلا تقديم طلب عفو من قائد جيش الاحتلال؛ فأمنية الأسير، الذي باتت أيامه معدودة، هي أن يموت في حضن والدته وبين أهله.
قدمنا الطلب وانتظرنا شهرا ونيّف؛ الا اننا لم نتلقّ أي رد أو اشعار عليه، فاضطررنا الى تقديم التماس لمحكمة “العدل” العليا الاسرائيلية.
قدمنا الالتماس في أوسط تشرين الأول / اكتوبر المنصرم، وعلمنا بان سكرتارية المحكمة قد عينت موعدا للجلسة يوم السادس من كانون الثاني /يناير 2020 المقبل. شعرنا بمهانة وبخيبة أمل؛ فإرجاء موعد الجلسة لأكثر من شهرين، فيه رسالة واضحة للملأ، مفادها: وما ضر أن يموت الفلسطيني وتموت معه الأماني، ولماذا لا تبكي أمه وهي تدفن في حضنها غصة !
لم نرضَ بقرارهم، فطالبنا بتقديم موعد الجلسة محذرين أنّ جميع الشواهد تؤكد أن الملتمس، سامي ابو دياك، يعاني من وضع صحي حرج؛ وأنه، في الواقع، يترنح على شرفة العمر، ويستعدّ لرحلته القادمة الى قلب العدم.
فرحنا عندما استلمنا قرار تقديم الجلسة وخشينا، في الوقت نفسه، لعنة القدر .
قضيت ليلتي وأنا أتمرن على أوقع وأبلغ المرافعات التي علي أن ألقيها، بعد عدة أيام، على مسامع القضاة الثلاثة. حرت في غابة من النصوص والخيارات وجرّبت أمام مرآتي خطبة المحارب: “لم آتيكم لأنني مؤمن بعدلكم”، قلت ، “فلطالما كنتم الذراع الطولى التي حملت بطش الاحتلال وأذلّت به شعب المقهورين، وأوقعته على أفئدة الأمهات وعلى مهج اليتامى الفلسطينيين. أنا هنا لأصرخ في آذانكم عساني أستحضر طائر البرق من ركام التاريخ ليأتي ويرقص أمامكم رقصة الموت، فتروا، ساعتها، كيف يذوي الحنين هناك في الغرف الباردة ويزهر شقائقَ حمراء في قلوب أجيال لم تولد بعد، وينتشر عطره أمالا “سامية” على هضاب جنين. احكموا كما شئتم، فالارض عارية والسماء حبلى والبقية أبدية عند من يحمي الندى من عبث السيافين”.
كانت خطبة نارية قاسية، لجأتُ بعدها الى حيلة المراوغ فأضفت: “جئتكم باسم الأمّهات الباكيات اللائي لا يرجون من الحياة سوى ضمة أخيرة لارواح أبنائهم الذابلة. لا تحدثوني عن قوانينكم الجائرة ولا عن من نصَّ، في غابر الازمان، أن العين بالعين وأنّ السن بالسن؛ ولا تأخذوني إلى بستان آدم وجنته العاثرة ولا الى حكمة الدم في لحم قايين، فكل ما أريده منكم هو أن تدعوا ساميًا يموت بعيدًا عن عيونكم الضاحكة”.
لم أشعر متى اغمضت عيني ولا متى نمت على الكنبة. أفقت في ساعة مبكرة من صباح ثلاثاء سوداء قاهرة، فسمعت أن سامي قد سلم الروح ورحل. تملكني حزن شديد؛ وتذكرت مسيرة الهزائم الطويلة التي ما فتئتُ أخطو على دروبها منذ أربعة عقود، ولم ألق عليها الا قصاصات ورق صفراء وعليها اسماء ناس وماس.
لم أجد ما سأقول للقضاة الذين كانوا سينتظرونني على شوك، سوى وصية شاب أسمر كان قد وُلد في حقول البارود، وعاش وهو يتقلى في قهر ومن غضب؛ فصرخ، قبل الرحيل، وقال: “لا تدعوا الشماتة، يا اخوتي، تذيب صدروكم؛ فالظلم أعمى والأمل باقٍ كنطفة ستكبر حتمًا هناك عند حفاف الغيب، حيث سأكون شبحًا يقضّ ليل الظالمين، ونجمة تضيء لأمي ليل دموعها، وتمسح العتم عن روابي خلاني”.