قراءة في الاتفاق المرحلي الصيني الأمريكي , بقلم: د. إسلام عيادي وباحثة بالشأن الصيني – أستاذة العلاقات الدولية/ الجامعة العربية الأمريكية .
تعتبر الخلافات الصينية – الأمريكية هي تجليات للتنافس بين قوة عالمية صاعدة وقوة أخرى مهيمنة يتقلص دورها ببطء يوماً بعد يوم، كما أنها انعكاس لتباين حقيقي في المفهوم الصيني والمفهوم الأمريكي للنظام العالمي السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
التقى الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في أبريل 2017، مع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في فلوريدا الأمريكية، وقد وصف الرئيس الأمريكي هذا اللقاء بأنه رائع، وأنه كان بمثابة منهجاً إيجابياً لتطوير العلاقات بين البلدين، بيد أن التطورات اللاحقة لم تكن كذلك، فبعد عام تقريباً من اللقاء، وتحديداً في أبريل 2018، نشرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة ضمت ألفاً وثلاثمائة سلعة صينية، لفرض المزيد من الضرائب عليها، بزعم انتهاك الصين للحقوق الفكرية للمنتجات الأمريكية، لترد الصين بإعلان فرض رسوم بنسبة 25% على 106 أنواع من السلع الأمريكية التي تستوردها. في الشهر التالي، حاول الجانبان تفادي الدخول في حرب تجارية، غير أنهما فشلا في الوصول لصيغة مشتركة، بل وجهت واشنطن مزيداً من الاتهامات لبكين. ونتيجة لذلك أعلنت وزارة التجارة الصينية أن القرار الصيني حيز التنفيذ فور تنفيذ واشنطن قرارها بفرض رسوم جمركية لنفس القيمة على بضائع صينية بتاريخ 23/8/2019.
ويعود العجز التجاري بين البلدين إلى ارتفاع الواردات الصينية بوتيرة أسرع من الصادرات الأمريكية إلى الصين. وتستورد الولايات المتحدة الأمريكية الألمنيوم والصلب والالكترونيات والملابس والآلات من الصين، بينما تعتبر الصين أكبر مستورد لفول الصويا من الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ سنوات والميزان التجاري بين البلدين يشهد فائضاً متزايداً لصالح بكين، وأن ما قام به ترامب على مدار عام 2018 من وضع الحواجز الجمركية أمام الواردات الصينية لم يفلح في الحد منها، بل زادت عما كانت عليه. وحتى نتائج النصف الأول من عام 2019 حققت فيه الصين فائضاً تجارياً مع أمريكا بنحو 167 مليار دولار.
وقد تصاعدت الحرب التجارية بين البلدين بشكل كبير في أغسطس 2019، وتأتي الرسوم الجمركية الإضافية في وقت تتزايد به المخاوف بشأن تباطؤ النمو العالمي، وركود اقتصادي يطارد العديد من اقتصادات العالم الرئيسية، بينما يبحث المستثمرون في جميع أنحاء العالم بيأس عن أي علاقة تطلعهم على إذا ما كانت ستصل الصين والولايات المتحدة الأمريكية إلى هدنة قريباً قبل نهاية العام 2019.
فقد عقدت واشنطن وبكين جولات في سبتمبر 2019، ولكن هذه المناقشات كانت دون مغزى، لذلك ترى بأن كلا الجانبين سيؤكدان مجدداً لبعضهما البعض شروطهما المسبقة لإجراء مزيد من المحادثات، ما يعني بالنسبة للجهتين أن الطرف الآخر سيحتاج أولاً إلى تقديم تنازلات الأمر الذي لا يدل على أي تقدم. ولكن يبدو أن المناقشات في ديسمبر 2019، مثل هدنة لوقف التصعيد المتبادل بين الجانبين الذي بدأ منذ مارس 2018، وذلك بتوقيع اتفاق المرحلة الأولى بتاريخ 15/1/2020، حيث ساهم هذا الاتفاق في رفع أجواء التشاؤم التي كاد العالم أن يستقبل بها العام2020 .
وبناء على ذلك، قدمت الصين تنازلات حول أدوات وسياسات اقتصادية كان لها بالغ الأثر في النجاح التي حققته خلال العقود الماضية، وما دفع واشنطن لوقف التصعيد والقبول باتفاق مرحلي وليس شامل، لا يرقى إلى مستوى الأهداف التي أعلنتها الولايات المتحدة عند بدء الحرب التجارية.
وهذا الاتفاق يقضي بخفض الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة في سبتمبر 2019، على واردات صينية تقدر بـ 120 مليار دولار، لتصبح نسبة الرسوم 7,5% بدلاً من 15%، بالإضافة إلى إلغاء حزمة جديدة من الرسوم كان من المقرر فرضها منتصف ديسمبر من العام الماضي.
إضافة إلى ذلك، أيدت الصين مرونة بخصوص سياسة تحديد قيمة العملة الصينية، وفتح أسواقها للخدمات المالية الأمريكية، وحماية حقوق الملكية الفردية، ووافقت على وقف العمل بشروط نقل التكنولوجيا التي تفرضها على شركات التكنولوجيا الأمريكية العاملة على أراضيها. كما أن الصين جمدت العمل بخطة تقضي لفرض حزمة جديدة من الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية تطبق ابتداءً من 15/12/2019.
ويبرر تقديم الصين تنازلات هو خشية بكين من أن تصعد واشنطن حربها التجارية لمستوى تجد فيه الصين نفسها ممنوعة من استخدام التكنولوجيا الأمريكية، مما دفع بالصينيين إلى تسريع العمل ورفع درجة جهوزيتهم لهذا الاحتمال، لكن الصين تفضل التوصل إلى اتفاق يتيح لها فسحة أكبر للاستعداد، وإن كان ثمنها تقديم قدر من التنازلات، كما أنها تحتاج إلى أجواء إيجابية مع الولايات المتحدة تسمح بالتوصل إلى تفاهمات تتضمن تحييد الأخيرة في القضايا التي تعتبرها بكين شؤوناً داخلية، وتحد من التواجد العسكري الأمريكي في بحر الصين الجنوبي.
ويمكن القول بأن الطرفين بعيدين عن التوصل إلى اتفاق شامل، فلم يتطرق الاتفاق للتعرفة الجمركية التي تفرضها الإدارة الأمريكية منذ بداية الحرب التجارية في العام 2018، التي تطال نصف الواردات الصينية بنسبة 25%، ويصعب أيضاً تقييم مدى التزام الصين بخصوص الحد من الإجراءات الهادفة إلى تخفيض العملة الصينية مقابل الدولار، فقد تم اعتماد اليوان ضمن سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي في سبتمبر 2016 إلى جوار الدولار واليورو والين الياباني والجنية الإسترليني. كما أنه لا يتناول عدداً من قضايا الخلاف الجوهرية مثل دعم الحكومة الصينية لصناعاتها المحلية، والمشاريع المملوكة للدولة، والسرقات الالكترونية. وستراقب واشنطن مدى التزام بكين بتعهداتها خلال الشهور القادمة، وسيلعب ذلك دوراً حاسماً في الإبقاء على حالة عدم التصعيد، بما يعزز فرص نجاح المفاوضات التي أعلن ترامب أنها ستستمر للوصول إلى اتفاق المرحلة الثانية.
ونخلص إلى أنه لم يعد بمقدور واشنطن اليوم منع بكين من تحقيق حلمها، حتى أن خطوات إدارة ترامب منذ بداية حربه التجارية مع الصين لن تجدي نفعاً، بل سيصاب الاقتصاد الأمريكي بأضرار أكبر من تلك الأضرار التي يطمح ترامب بتحقيقها بالاقتصاد الصيني. لذلك تتقدم الصين بخطوات ثابتة نحو تحقيق مخططها الاستراتيجي الشامل، لتكون الدولة الأولى عالمياً على المستوى الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي.