تفسير من وحي القران “فراشة العشق”
على مرِّ العصور هناك شخصيّات حُفِرَت أسماؤها على صفحات التّاريخ، وخلّدها الدّهر فهي مضيئة تتلألأ على جبهة الزّمان. لقد خلّد التّاريخ أسماء أولئك المضحّين الّذين قدّموا أرواحهم في سبيل حفظ الإيمان، فتلقّوا سهام البلاء والعذاب بكلّ عشق ومحبّة، وأقبلوا إلى حبال المشانق وحدّ السّيوف وهم يقبّلونها فرحين مسرورين، واحترقوا بنار العذاب مثل الفراشات، فسطعت أسماؤهم كأنّها الكواكب الدّرّية.
من بين هؤلاء الأشخاص (آسية) زوجة فرعون الّتي تحمّلت أنواع العذاب وتجرّعت كأس البلاء، كلّ ذلك في سبيل الإيمان، الإيمان بموسى وربّ موسى وعقيدة موسى (عليه السّلام).
في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، أنّه أرسل إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشيء، فقال (عليه السّلام): « ليس كما ذكرت، ولكن سأخبرك عنهم، إنَّ الله بعث رجلاً حبشيًّا نبيًّا، وهم حبشة، فكذّبوه، فقاتلهم فقتلوا أصحابه، وأسروه وأسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حَيْرًا ، ثمّ ملؤوه نارًا، ثمّ جمعوا النّاس فقالوا: من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النّار معه، فجعل أصحابه يتهافتون في النّار، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر فلمّا هجمت هابت ورقّت على ابنها، فناداها الصّبيّ: لا تهابي وارمني ونفسك في النّار، فإنّ هذا والله في الله قليل، فرمت بنفسها في النّار وصبيّها، وكان ممّن تكلّم في المهد» [1] .
والله تعالى يشير إلى قضيّتهم في القرآن الكريم، يقول تعالى في شأن أولئك الظّلمة المستكبرين: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ﴾ [2] .
لقد وُضع المؤمنون في ذلك العصر بين خيار الإيمان والموت من جهة، أو الحياة والكفر من جهة ثانية، فكان الموت عندهم أحلى من العسل لأنّه في سبيل الإيمان. نعم إنّ المؤمن ليبذل روحه في سبيل الحبيب الأزليّ وهو جذلان، كيف لا وأرواح الجميع منه ابتدأت وإليه تنتهي، أَوَليس وجودنا ملك له، أَوَليس كلّ الوجود منه وإليه، ألا يلهج لساننا بذكره في ركوعنا وسجودنا قائلاً: إلهنا نحن نعبدك وحدك لا نشرك بك أحدًا، وهذا الميثاق في أعناقنا لا نحيد عنه ولو فصلت رؤوسنا عن أجسادنا.
إنَّ العاشق الحقيقيّ يمنح كلّ وجوده للمعشوق، وهذه المرأة وطفلها قد تجسّدا في أجمل صورة للإيثار والتّضحية، ومنحا روحَيْهما في سبيل الإيمان، « إنّ هذا والله في الله قليل ».
بهذه الصّرخة من طفل رضيع، كأنّه بصوته البريء يواسي أمّه ويلاطفها ويقول لها: أنا غلامك، لا تخافي، إنّ حضن محبّتي فاتح ذراعَيْه ليضمّك، وحور العين في الجنّة بانتظارك لتؤنسك وتواسيكِ. فما كان من الأمّ إلاّ أن ضمّت ولدها بين ذراعَيْها وحضنته إلى صدرها، فأغمضت جفنَيْها، ورمت بنفسها وطفلها في النّار، وهي هادئة مطمئنّة وكأنّها فراشة تحترق في العشق في سبيل الإيمان.