يقول -جل وعلا-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] كُتب بمعنى: فُرض، والكاتب هو الله -عز وجل-، هو الذي يفرض ما يشاء، ويُوجب ما يشاء، ويُحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، له الحكم في عباده كوناً وشرعاً، فلا مُعقب لحكمه، وهو السميع العليم.
والصيام في الشرع: هو التعبد لله -عز وجل-، بالإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، هذا هو الصيام، فهل يمكن أن نبدل هذا بقولنا: من أذان الفجر إلى أذان المغرب؟ لا؛ لأنه قد يُؤذن للفجر قبل الوقت، وقد لا يُؤذن إلا بعد الوقت، وكذلك في المغرب، قد يُؤذن قبل الوقت، وقد لا يُؤذن إلا بعد الوقت، فالمدار على طلوع الفجر، وعلى غروب الشمس؛ لكن لما كان الناس في بيوتهم صاروا يعتمدون على المؤذنين، إذا كان المؤذنون ثقاة، ودليل هذا حديث: “أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال رسول الله -ﷺ-: كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر [البخاري (1918) وأصله متفق عليه] فالصيام إذاً شرعاً: هو التعبد لله في الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وقوله -عز وجل-: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] فيه فائدتان عظيمتان:
الفائدة الأولى:
تسلية لهذه الأمة، حتى لا نقول: لماذا فُرض علينا الصوم دون غيرنا؟ فقال: إن الصوم مفروض على الأمم السابقة.
الفائدة الثانية:
استكمال فضائل الأمم السابقة؛ لأن هذه الأمة كمَّلت فضائل الأمم السابقة، فكل فضائل الأمم السابقة موجودة في هذه الأمة، وما كان من نقص فإنه كمل بهذه الأمة؛ ولهذا روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: إنما بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق [أحمد (8952) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349)].
وصح عنه -ﷺ- أنه مثَّل نفسه بالنسبة لمن قبله من الأنبياء برجلٍ بنى قصراً مشيداً عظيماً، فكان الناس يطوفون به، ويتعجبون منه، ويقولون: ما أحسن هذا القصر! إلا موضع هذه اللبنة -في مكان لبنة ما تم- قال: فأنا اللبنة أي: كمَّل الله به البناء [البخاري (3535)ومسلم (2286)].
فكل الخيرات في الأمم يا إخواني! موجودة في هذه الأمة، ولله الحمد، لكن هذه الأمة إذا عصت الله -عز وجل- فإنه لا يُبالى بها، بل معصية هذه الأمة أشد من معصية الأمم التي قبلها؛ لماذا؟ لأن الفضائل إذا استكملت صار المفرط فيها أشد لوماً، لكن مع ذلك خفّف الله عن هذه الأمة، مع كوننا نحن أحق باللوم من غيرنا، لكن الله خفّف عنا، قال الله تعالى في وصف نبينا محمد -ﷺ-: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] في بني إسرائيل إذا فعل الإنسان منهم ذنباً لا يكفيه أن يتوب فيما بينه وبين الله، يكون ذنبه مكتوباً على بابه في الصباح -فضيحة- أما هذه الأمة فذنوبها مستورة، ولله الحمد.
يفعل الإنسان الذنوب، ثم يتوب فيما بينه وبين الله، فتبقى مستورة.
نسأل الله تعالى أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا.