ها هو شهر رمضان قد انقضى، وها هي أيامه، ولياليه قد أزفت على الرحيل، انقضى شهر الصيام، والقيام، انتهى شهر الرحمة، والمغفرة، والعتق من النيران، انقضى بعد أن هبت على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب من الله -عز وجل- ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، وللمستوجبين النار بالعتق؛ لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، فخمدت نيران الشهوات بالصيام.
إن وداع هذا الشهر ليهيج في النفس الأحزان، فكيف يفارق الحبيب محبوبه الذي يخشى أن يكون آخر العهد به؟! وهل نودعه بما يظهره بعضنا من فتور همة، وخمول عزيمة، أم نودعه بما كان يودعه أولو الألباب من عباد الله، والصفوة من خلقه سلف هذه الأمة، وخيارها؟! أولئك الذين جمعوا بين الاجتهاد في إتمام العمل، وإتقانه، وبين الاهتمام بقبوله بعد ذلك، والخوف من رده.
لقد كان أسلافنا -رضي الله عنهم- يظهرون سلوكًا رائعًا مع هذا الشهر المبارك حتى قبل أن يدخل عليهم، إذ كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم [لطائف المعارف:1/ 232]، وبعد خروج الشهر المبارك كانوا يظهرون الأسى، والحزن على خروجه، ويحرصون على أن يوصي بعضهم بعضًا على الاستمرار في الطاعة على مدار العام؛ لأن كل الشهور عند المؤمن مواسم عبادة، بل العمر كله موسم طاعة.
خرج عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في يوم عيد فطر فقال في خطبته: أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم، وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملًا فلا أدري أيقبله مني أم لا؟، ورأى وهب بن الورد قومًا يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين.
وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون.
وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه.
وعن ابن مسعود أنه كان يقول: من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول: هنيئًا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك” [لطائف المعارف:1/ 234، بتصرف].
أيها الأخ الصائم: انظر إلى أسلافك كيف كان حالهم عند خروج رمضان، وكيف كان حزنهم على فراق هذا الشهر المبارك، ولك فيهم أسوة، فاجتهد في هذا الشهر، وليكن هذا الاجتهاد مؤثرًا فيك في بقية عمرك، وسل نفسك سؤالًا هو: ماذا استفدت من رمضان؟ وهل أحدث رمضان تغييرًا في نفسك وسلوكك؟
نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يتقبل منا القليل، ويتجاوز عنا الكثير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.