يعتبر فن العمارة المغربي من أبرز فنون العمارة الإسلامية العريقة وأكثرها شهرة، فمنذ مئات السنين وإلى عصرنا الحاضر لا تزال معالم العمارة المغربية خالدة عبر العديد من البنايات والمعالم التاريخية التي تحكي قوة التاريخ والحضارة وترصد شموخ اللون وغزارة الإبداع.
شملت تلك النهضة مختلف أنواع العمارة الإسلامية، كبناء الأسوار والحصون والأبراج والقلاع والمساجد والزوايا والأضرحة والقباب والقصور والمساكن والمصانع، وغرس البساتين، وتصميم الأسقف والنحت على أطرافها.
وقد كان للحرفيين والصناع التقليدين المغاربة دور كبير في الحفاظ على هذا الموروث الحضاري والإنساني الغني الذي وفر للعالم مناخا من الخبرات والذوق والتي جعلت من هذه العمارة استثنائية.
جمال العمارة المغربية
يعود صمود وجمال العمارة المغربية إلى تنوع وتداخل الحضارات في المغرب بين الأمازيغية والرومانية والأندلسية والإسلامية، مرورا بالدول الاستعمارية (البرتغال وإسبانيا وفرنسا)، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي للمغرب والذي كان له دور في مرور حضارات من أفريقيا أو أوروبا أو حضارات دول البحر الأبيض المتوسط، دون أن ينال ذلك من شخصيته الفتية، بل كان ذلك عاملا في تفتحه لينهل من جل الحضارات ويشكل شخصية عمرانية قوية، مما كان له دور في هذا الزخم العمراني المهم الذي نلاحظه في جل المدن العتيقة ونلمسه بشكل أوضح في الديكور المغربي المتنوع الألوان المستمدة من البيئة المغربية.
وقد اعتبر الدكتور عثمان عثمان في مقدمة مؤلفه “العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية” في جزئه الخامس أن المغرب وجد في ثقافته وقدراته الموروثة خير دعم للشخصية المغربية وسط أهوال الأطماع المتلاحقة، فعض بالنواجذ على تقاليده الأصيلة ثقافة وبناء وصناعة مع التطور الذي يواكب العصر، إلى أن أفلت ذلك التراث من يد الطامعين ليظل شاهدا على عظمة الإسلام ودور العروبة المجيد في المغرب الأقصى.
واعتبر عثمان أنه إذا كانت شعلة الحضارة العربية رحلت عن الأندلس فقد استقرت بما تستعيره من فنون الطراز المغربي الأندلسي وعلومه وثقافته في الأم الحضارية الكبرى بأرض المغرب الأقصى.
وفي الإطار نفسه، اعتبر الباحث محمد أمزيل للجزيرة نت أن المغرب يحفل بالمعالم العمرانية والمآثر التاريخية، ويزخر بتحف أثرية نادرة تبين عراقة المغربية وأصالتها، وسعيها الحثيث إلى صيانة الذاكرة الجماعية وضمان إشعاعها الحضاري والثقافي على المستوى الكوني.
ويضيف أمزيل أن “العمارة الترابية بالمغرب لها عدة خصوصيات، معتبرا العمارة الترابية أو التراث المعماري في شموليته هو التراث المبني بالتراب، هو نبض الماضي، روح الحاضر الذي يكتسي في شموليته قيمة ثقافية، فنية، إبداعية جميلة وجذابة، يعكس الإبداع والمعرفة الإنسانية التي قامت عليها الحضارات العريقة”.
فهذه العمارة الترابية تشكل لوحات تشكيلية متناسقة تجسد نمطا معماريا مميزا وملامح مراحل تاريخية وثقافية وتراثية وفلكلورية متجذرة في القدم، بحسب تعبير أمزيل.
وفي ورزازات (الجنوب الشرقي للمملكة المغربية) تزخر المدينة بتراث معماري متميز بأسلوبه الخاص في البناء، خصوصا على مستوى القصور أو القصبات أو المخازن الجماعية التي بنيت منذ قرون من الزمن ولا تزال شاهدة على أحداث تاريخية مهمة في تلك الحقبة الزمنية، وإرثا حضاريا وتاريخيا وثقافيا يحكي عن التاريخ العريق للإقليم، وتمنحه أيضا واحات النخيل المنتشرة بمناطق الإقليم جمالية ولونا يعكس استمرارية الحياة وجاذبيتها، وتتميز في أشكالها وتصاميمها بمجموعة من الزخارف والنقوش والرموز ورسومات ومجسمات مختلفة ومتنوعة شكلا وعمقا، وبألوان طبيعية مزجت بين سحر الطبيعة وابتكار الإنسان.
فالقصر التراثي عبارة عن عمارة ترابية وتجمع سكاني في الأغلب محاط بسور سميك، ويضم عددا من المرافق، منها قصبات وبيوت ومسجد وساحة ومخازن للحبوب، وتتميز بكونها أوسع من القصبة، ومن أشهرها نجد قصر آيت بن حدو بورزازات المعروف عالميا والمصنف تراثا إنسانيا من قبل منظمة اليونسكو عام 1987، ويقع على بعد 30 كيلومترا تقريبا شمال مدينة ورزازات، ويعتبر من أهم القصور التاريخية في المغرب، وقد ساهمت الأنشطة السينمائية في التعريف بالقصر على المستوى العالمي.
أما القصبة فهي عبارة عن بناية ترابية ضخمة تتميز بعلوها، وتتخذ في الأغلب شكلا من عدة طوابق قد تصل إلى 4 أو أكثر، وغالبا ما يخصص الطابق الأرضي للدواب وبقية الطوابق للسكن والإقامة، وتتميز القصبات بارتفاع أركانها الأربعة (البروج)، ومنها على سبيل المثال قصبة تاوريرت بمدينة ورزازات والمعروفة عالميا مند قرون، ووظيفتها حاليا سياحية ثقافية على الخصوص، بحسب أمزيل.
سمات الإبداع المغربي
من سمات الإبداع في العمارة المغربية في شقها المدني استخدام الأشكال الهندسية، كما أن هناك زخرفة للنباتات والأشجار والزخرفة الكتابية، مثل الكتابة بالخط الكوفي على شكل شريط يحيط بالعمارة، ولأن الزخرفة شكل جميل للعمارة فإنه يغلب على المعمار المغربي الترف والإسراف في وضع الزخارف.
فالأقواس مثلا تنتشر بشكل كبير في المعمار المغربي القديم، فهناك الأقواس التي تشبه حذوة الفرس الدائرية والأقواس المدببة والمزخرفة وكذلك المفصصة التي اشتهرت بها الأندلس والمغرب، حيث اعتمدت على الأقواس في رفع السقوف، فتباين بعضها من حيث العدد، حيث ظهر العدد المبالغ من حيث الأقواس التي تحمل السقف في بعض العمارات والمساجد كجامع قرطبة وجامع القرويين في فاس ومسجد الكتبية بمراكش.
أما ما يميز الأسقف المغربية فهو النقش على الخشب، حيث يعتبر هذا النمط من سمات العمارة المغربية، ويتجلى ذلك في الأبواب والأسقف والأثاث، ولا تزال المنازل المغربية تحتفظ بطابعها المتميز من خلال النقوش الكلية أو الجزئية بما يسمى “الزواق”، بالإضافة إلى النقش على الجبص والقباب والفسيفساء الذي هو عبارة عن قطع الموزاييك متنوعة وذات ألوان كثيرة يتم من خلالها تشكيل أشكال متنوعة بعد دمجها مع بعض لتزين حيطان المساجد والقصور والأعمدة والأحواض والنافورات.
وعن هذه الأساليب، قال الدكتور عثمان عثمان في الجزء الخامس من مؤلفه إن “الأساليب المحلية -التي بدأت منذ عصر المرابطين فالموحدين، إلى أن استقرت في عصر المرينيين- ممثلة لقمة التطور في طراز الفن المغربي الأندلسي، بالإضافة إلى الانفتاح على بعض الأساليب والتأثيرات الجديدة التي تشير إليها القبة الغربية بصحن جامع القرويين”.
الصناع والحرفيون
تعتبر التحف العمرانية المغربية القديمة أو الحديثة نتاجا لصناع مغاربة مهرة كان لهم الدور الكبير في سر جمالها وخلودها لتظل عبقرية هؤلاء الحرفيين مواكبة لكل مستجد ومحافظة على هويتها وخصوصيتها العمرانية والإبداعية، مما يبرز الذوق الرفيع وكفاءة الحرفيين المغاربة.
إن ما نشاهده اليوم من إنتاج إبداعي عمراني موغل في القدم يبين دقة التحف الفنية والطابع البدائي للمواد وحرفية ودراية بقواعد الصنعة، هذه المهارة المتوارثة من جيل إلى جيل هي نتاج مراحل من التعلم والتتلمذ، فتقليديا هذه الحرفة تنتقل من الأب إلى الابن حيث إن التعلم يبدأ من الصغر.
وفي مؤلف “العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية” في جزئه الخامس، اعتبر مؤلف الكتاب أن المغرب لم يستورد صنّاعا وفنانين لإنجاز روائع العمارة والفن في ضريح محمد الخامس، بل أنجزها معلمون تعرفت إليهم واستمعت إليهم، ووقفت منهم بنفسي على سر رعاية الدولة وحفاظها على نمو وتطور الأساليب الفنية في خطها التاريخي.
وأضاف أن المغرب ما زال يصدّر إلى عديد من دول أفريقيا وآسيا وأوروبا كبار البنائين ومشاهير المعلمين الفنانين في صناعات الحجر والجص والرخام والخشب والزليج، والمزوقين والمزخرفين، لتنفيذ الأعمال الفنية الكبرى على النمط المغربي التقليدي الذي ما زال يدهش الآخرين باعتباره ممثلا لروعة الفنون الإسلامية في صورتها التاريخية.
وقد اعتبر أحمد البهجة -وهو أحد حرفيي النقش على الجبص- للجزيرة نت أن المغرب يزخر بالعديد من الحرفيين المغاربة المهرة في هذه الحرفة، وأن الكثير من البنايات داخل المغرب وخارجه استفادت من مهارة وبراعة الصانع المغربي، سواء في الجبص أو الحرف العمرانية الأخرى.
وأضاف أن هذه الحرفة توارثها الصناع المغاربة من أجدادهم، حيث اعتبرها من الروافد التي تغني التراث العمراني المغربي الأصيل، مؤكدا أن هذا الإبداع العمراني بفنونه وأنواعه الغنية يعتبر مرجعية عريقة وأصيلة ترتبط بعمق الفنون الإسلامية والإبداعات الأندلسية المغربية الراقية.
المصدر : الجزيرة