سوريا وفضائيات ‘الدمار الشامل’ – بقلم: عبد الباري عطوان
في احدى مقابلاته التلفزيونية قال الرئيس السوري بشار الاسد ‘إنهم يسيطرون على الفضاء ولكننا نسيطر على الارض’، في اشارة الى ان قوات جيشه وأمنه لها الكلمة الاولى والاخيرة على طول بلاده وعرضها، ولكن يبدو، ووفق الاحداث الاخيرة في العاصمة دمشق والاطراف الحدودية، ان هذه السيطرة بدأت تتآكل تدريجيا بفعل النجاحات التي حققتها قوات المعارضة بانتماءاتها كافة.
الرئيس الاسد حاول ان يقلل من اهمية خسارة ‘الفضاء’ لمصلحة تعظيم اهمية السيطرة على الارض، وكان مخطئا في ذلك في تقديرنا، لأن اشرس الأسلحة التي استخدمت لتقويض نظامه هي اسلحة الدمار الشامل الفضائية، وهي أخطر بكثير من كل الأسلحة الاخرى، فمن تقف محطات تلفزة من الوزن الثقيل ضده من الصعب ان ينتصر في نهاية المطاف، خاصة تلك التي حققت رصيدا عاليا لدى الشارع العربي، وظّفته في خدمة أجنداتها.
الفضائيات المدعومة ماديا بشكل مهول هي التي سرّعت بهزيمة نظام العقيد القذافي، وربما كانت لا تقل فاعلية عن غارات طائرات الناتو، وزحف قوات المجلس الوطني على الارض، ولم يكن من قبيل الصدفة ان يتم ضرب محطات التلفزة الليبية التابعة للنظام في اللحظات الحرجة من المواجهات، وشلّها بالكامل رغم بؤس تغطيتها وبرامجها، وعندما تتم كتابة تاريخ ثورات الربيع العربي في مرحلة لاحقة، ستظهر حقائق مفاجئة، بل ربما مرعبة، عن الدور المبرمج والموجّه لمحطات التلفزة في هذا الاطار، وفي ليبيا وسورية على وجه الخصوص.
ولا بدّ من الاعتراف بأن حلول النظام الأمنية الدموية، وتاريخها الحافل في سحق كرامة الشعب واذلاله لسنوات طويلة واستفحال الفساد، والتعاطي بفوقية ودموية مع الانتفاضة الشعبية في بداياتها السلمية، في انعكاس واضح لسوء ادارة الأزمة، بالاضافة الى تخلف وسائل الاعلام المحلي وانعدام مهنيتها وحشوها بالموظفين عديمي الكفاءات ومن لون واحد مع وجود استثناءات قليلة، كلها عوامل سهّلت مهمة هذه الفضائيات لتعبئة الرأي العام السوري ضد النظام ولمصلحة المعارضة السلمية، ومن ثم المسلحة.
اغتيال اربعة ضباط كبار في عملية ما زالت غامضة، وجّه ضربة قوية للنظام السوري دون ادنى شك، ولكن الخسارة الاكبر جاءت معنوية قاتلة، تمثلت في سقوط المعابر الحدودية السورية في ايدي قوات الجيش السوري الحر، وبعض وحدات تابعة لتنظيمات اسلامية متشددة، مثل تنظيم القاعدة، فهذا التطور سيؤدي حتما الى حالة من الفوضى في البلاد، وتعدد الجبهات والجهات المقاتلة والمتقاتلة.
من الواضح ان النظام في سورية، وقد ادرك حجم التحديات التي تواجهه والقوى التي تريد اسقاطه، عربية كانت ام دولية، بدأ يتبع استراتيجية جديدة بالتخلي عن الاطراف، او بعضها، من اجل احكام، او بالأحرى الدفاع عن العاصمة، وبعض المدن الرئيسية الاخرى لأطول مدة ممكنة.
لا نعتقد ان الرئيس الاسد سيرضخ للضغوط المتعاظمة، من الداخل والخارج، التي تريده ان يتنحى ويغادر البلاد، ولا نستبعد ان يقاتل والمجموعة الموالية له حتى اللحظة الاخيرة، وإلاّ لما استخدم حلفاؤه الروس والصينيون حق النقض ‘الفيتو’ ثلاث مرات في مجلس الامن الدولي لمنع فرض اي عقوبات دولية على نظامه.
الرئيس الاسد حسم أمره بتبني الخيار الجزائري، اي القتال بشراسة ضد الثورة المسلحة التي تريد اسقاطه، وهو الخيار الذي ادى الى سقوط اكثر من 200 الف قتيل، في حرب اهلية استمرت ثماني سنوات انتهت بانتصار النظام.
الظروف التي اندلعت فيها الحرب الجزائرية مختلفة كليا عن نظيرتها الحالية في سورية، وابرز اوجه الخلاف ان النظام الجزائري كان مدعوما من الغرب ،بطريقة او بأخرى، لمواجهة معارضة اسلامية متشددة، بينما يحدث العكس تماما في سورية، فالغرب يعادي النظام ومعه عرب الخليج وتركيا، ومصمم على اسقاطه، ويدعم هذا المعسكر المعارضة بشكل شرس، ماديا وعسكريا واعلاميا.
سورية تتحول وبشكل متسارع الى حرب شوارع في المدن الكبرى، وهي حرب مرشحة للاستمرار لسنوات، هذا اذا لم تحدث حرب اقليمية تقلب كل الموازين، لأن النظام السوري يحظى بدعم دول اقليمية (ايران، العراق، وحزب الله)، ودولية روسيا والصين، وهناك من يريد التخلص منه للانتقال الى الهدف الأخطر، وهو حليفه الايراني وذراعه العسكرية في لبنان اي حزب الله.
تعاظم الحديث عن اسلحة النظام السوري الكيماوية يصب في هذا الاطار، ولا نستبعد ان تكون الولايات المتحدة ،ومعها اسرائيل، تخطط لإحداث الفوضى العسكرية في سورية لتبرير تدخلها في عملية خاطفة للاستيلاء على هذه الاسلحة مبكرا، حتى لا يستخدمها النظام او حزب الله ضد اسرائيل في حال بدء الهجوم الاسرائيلي ـ الامريكي على ايران، وهو يبدو قد بات وشيكا.
لم يكن من قبيل الصدفة ان تجرى مناورات عسكرية على الحدود الاردنية ـ السورية قبل شهرين، تحت اسم ‘الاسد المتأهب’ بمشاركة 19 دولة بقيادة امريكية، وتتمحور حول السيطرة على ترسانة الاسلحة السورية الكيماوية، في حال فقدان النظام لسيطرته على الأوضاع في البلاد.
صحيفة ‘الفايننشال تايمز’ البريطانية تحدثت بالأمس عن اتصالات اردنية ـ امريكية ـ اسرائيلية لبحث موضوع هذه الترسانة، وكيفية الاستحواذ عليها، وجاء هذا الحديث بعد يومين من تصريحات ادلى بها العاهل الاردني لمحطة ‘سي ان ان’ اكد فيها وجود تنظيم القاعدة في سورية، وحذر من امكانية وقوع اسلحة سورية كيماوية في قبضته.
اي عملية للاستيلاء على هذه الاسلحة غير مضمونة النجاح، كما ان النظام الذي يتابع هذه المناورات والاتصالات في هذا الاطار ليس على درجة من الغباء بحيث يتركها في العراء، وفي عناوين معروفة، ولا نستبعد ان يكون اخفاها في اماكن عدة، او سرّب بعضها الى ‘حزب الله’ ليستخدمها في الساعة الحاسمة، وهذا ما يفسر تكرار حديث السيد حسن نصر الله زعيم الحزب عن مفاجآت كبيرة في اي حرب قادمة ضد اسرائيل.
سورية تتحول بسرعة الى دولة فاشلة، ولن يكون غريبا اذا ما فلتت الأمور من ايدي النظام والقوى العاملة على اسقاطه في المستقبل القريب، لمصلحة قوى فاعلة لا تحتكم الى معايير او قيود دولية، او قانونية (Non state actors).
اذا صحت التقارير الاستخبارية الاردنية التي تقول بأن هناك ستة آلاف عنصر تابع لتنظيم القاعدة موجودون حاليا في سورية، فإن علينا ان نتوقع ان يكون هؤلاء كتائب المقاومة الجديدة التي ستزلزل اسرائيل، سواء في حال انكمش النظام السوري او سقط.
اسرائيل ستكون الخاسر الأكبر من جراء ما يحدث في سورية من تطورات، فالمقاتلون على الارض السورية، سواء في النظام او المعارضة، او المنظمات الاسلامية المتشددة قد يختلفون مذهبيا او عقائديا او في الاهداف، ولكن هدفا واحدا سيوحدهم جميعا، وهو ان اسرائيل هي العدو الاول، وستبقى كذلك.
التغيير الذي يحدث في سورية حاليا، وايا كانت نتائجه، لن يتوقف عند الحدود السورية، وهي دون حارس على اي حال حاليا، وانما سيمتد الى دول الجوار، وسيحرق اصابع وربما اجساد الكثيرين، انه ‘تسونامي’ كاسح.
تنحي الاسد او عدمه ليس هو المشكلة، فالأحداث والتطورات ربما تجاوزت هذه المسألة، نحن امام تحد من نوع مختلف، نحن امام منطقة تتغير، ويعاد رسم خريطتها من جديد، تصحح خرائط سايكس ـ بيكو، ولا نعتقد ان امريكا التي انهزمت في العراق وافغانستان ستكون المنتصر هذه المرة، وان كانت الوقائع على الارض السورية تشير الى عكس ذلك. سورية ليست ليبيا وليست افغانستان، سورية شهدت قيام اول امبراطورية اسلامية عربية في التاريخ.