سميح القاسم وأنا، بقلم: علي هيبي
السّنة 1970 واليوم المشؤوم الثّامن والعشرون من أيلول … مات الرّئيس جمال عبد النّاصر … كنت يافعًا، في الخامسة عشرة من عمري، لا أدري من أمور السّياسة شيئًا، كانت السّياسة عندي عواطف وأحاسيس، هذا أحبّه وهذا أكرهه.
أحببت جمال عبد النّاصر وبكيته كما بكاه الكثيرون، ولا تفسير عندي لبكائي إلاّ صدقي في حبّه، ولا عقلانيّة ولا موضوعيّة في الحبّ.
من يومه الأوّل رئيسًا كرهت أنور السّادات، وكرهته قبل أن يصير رئيسًا، وعندما اغتيل فرحت، ولم أسأل عن مصدر الرّصاص، فقد تخلّصنا من مبدّد الانتصار العسكريّ ومن ممهّد سياسة الخنوع لمخطّطات السّياسة الأميركيّة والصّلح المنفرد وترك مصر بلا العرب والعرب بلا مصر والتّطبيع مع إسرائيل.
أحببت جيفارا الثّائر ولم أقرأ له ولا عنه سطرًا واحدًا وكرهت باتيستا الدّكتاتور العميل.
أحببت باتريس لوممبا وعبد الخالق محجوب ونيلسون مانديلا وكرهت التّمييز والعنصريّة.
أحببت تولستوي العظيم النّقيّ وكرهت زوجته الأرستقراطيّة المتعالية.
أحببت الاتّحاد السّوفييتيّ وكرهت الولايات المتّحدة الأميركيّة.
أحببت العمّال وكرهت أصحاب العمل.
أحببت الفقراء والعبيد وكرهت الأسياد والأغنياء.
أحببت الحزب الشّيوعيّ وجريدة “الاتّحاد” وكرهت عكاكيز السّلطة وجريدة “اليوم”.
أحببت توفيق زيّاد ومحمود درويش ومعين بسيسو وسميح القاسم وكرهت شعراء النّظام الذّيليّين.
كان هذا الحبّ وهذه الكراهيّة مفتاحَيْ طريقي إلى عالم السّياسة … وإلى القراءة والكتابة فيما بعد.
كنت يافعًا وكان سميح القاسم في عزّ تألّقه السّياسيّ والأدبيّ، مقاومًا في مواقفه وقلمه، كنت أحبّه ورفاقه لا لسبب معرفيّ ولا لتفسير علميّ بل لشعور فطريّ وإحساس عميق يميّز بين الصّدق والكذب، وبين الإنسانيّ واللاإنسانيّ، وبين مقاومة الظّلم والخنوع له.
في خندق الإنسان والصّدق والمقاومة كان سميح القاسم، كما تخندق منحازًا إلى الفقراء والعبيد والعمّال.
لم تكن تربطني فيه أيّة علاقة شخصيّة، اللهمّ إلاّ علاقة قارئ لشاعر يحبّه، وعلاقة انتماءٍ للحزب فيما بعد، ولكلّ ما حمله الحزب من رؤًى سياسيّة واجتماعيّة مقاومة للسّلطة الإسرائيلية وانتهاجها لسياسة التّمييز القوميّ والتّنكّر للحقوق القوميّة والمدنيّة للأقلّيّة العربيّة المتشبّثة بترابها وهويّتها.
لقد كانت مواقف الحزب وقيادته الحكيمة أساسًا متينًا ومنارة شامخة أنارت لنا الطّريق إلى برّ الأمان، فانتصرنا في معركة البقاء والصّمود. وكان سميح القاسم أحد تلك الأعمدة السّاطعة الأضواء قلمًا وفكرًأ وممارسة.
كان سميح القاسم الشّاعر الموهوب والسّياسيّ العنيد والشّيوعيّ الصّلب الرّافض للخدمة العسكريّة في جيش الاحتلال، محاربًا بلا هوادة محاولات السّلطة لسلخ العرب الدّروز عن قوميّتهم العربيّة وعن مجتمعهم، تحت شعار “رباط الدّم” الزّائف.
لا أستطيع أن أنسى أناقته وأناقة صوته المجلجل في المناسبات الوطنيّة، في يوم الأرض وأيّام النضال الأخرى، حيث صرخ دائمًا بوجه الغطرسة الإسرائيليّة في كثير من قصائده الوطنيّة والحماسيّة:
“تقدّموا … تقدّموا!
كلّ سماء فوقكم جهنّمُ
وكلّ أرض تحتكم جهنّمُ”
رحل جمال عبد النّاصر وصرنا نشتري كتبه ونخبّئها، “فلسفة الثّورة” و “الميثاق” كما كنّا نقرأ “الاتّحاد” و “الغد” سرًّا، لأنّ الشّيوعيّين عليهم “دمغة سلطويّة” سوداء، ولذلك كان البعد عنهم “غنيمة” والقرب منهم يورد موارد الهلاك والحرمان من أسباب الرّزق والوظائف المرتبطة بأجهزة السّلطة.
ومع ذلك ولذلك ظللت أحبّهم طيلة حياتي حتّى انتسبت للجبهة منذ أن ولدَتْ سنة 1976، وانتسبت للحزب بعد عشر سنوات، سنة 1986.
اللّقاء المباشر الأوّل بيننا: سميح وأنا، كان في مكتبه في مجلّة “الجديد” في حيفا، فقد كان سميح رئيس التّحرير. كنت أعدّ لدراسة حول الشّاعر الفلسطينيّ الشّيوعيّ معين بسيسو، _ ويل لكسلي كنت قد نشرت جزءًا منها في “الاتّحاد” ولم أنهها _ وكان لسميح علاقة خاصّة وحميمة مع معين، وقد أُعجبت بكليهما كشاعريْن كبيريْن من شعراء المقاومة، فقد جعلا هما وآخرون من الشّعراء الفلسطينيّين كتوفيق زيّاد ومحمود درويش، جعلوا الشّعر الفلسطيني المقاوم صديقًا ورديفًا فنيًّا للمقاومة الفعليّة في المعارك والمواجهات، وجعلوه أيضًا رسولاً وسفيرًا يبشّر لعدالة قضيّتنا في أصقاع الأرض، ليواكب هذا الشّعر شعر المقاومة في العالم العربيّ والعالم كلّه، مع أشعار أيلوار وأراغون ولوركا ونيرودا وسجاد ظهير وفايز أحمد فايز والفيتوريّ ودنقل وناظم حكمت.
في أوائل التّسعينيّات كنّا في ضيافة المركز الجماهيريّ في طمرة. أمسية شعريّة كان نجمها سميح القاسم ولفيف من الشّعراء، وكنت مدعوًّا كمستمع. حضرت مبكّرًا وفوجئت بأنّ سميح القاسم كان أكثر منّي تبكيرًا، فحيّيت وصافحت وفاجأني: “ماذا ستلقي اليوم”!؟ “أنا مدعوّ كمستمع”. وأصرّ “ستلقي اللّيلة شيئًا من شعرك”! قلت: “لا تحرجني فأنا لست ضمن برنامج الشّعراء الّذين سيلقون”. فقال أحسن الشّعر ما كان خارج سرب البرنامج. ستلقي!” “لكنّي لم أحمل معي شيئًا من قصائدي، ولا أحفظ شيئًا عن ظهر قلب”. قلت لعلّه يزيح عن كاهلي جبل الإحراج. “أمامك خياران لا ثالث لهما: الذّهاب إلى كابول وإحضار ما تريد أو كتابة ما يمكن أن تتذكّره الآن”. لم يدع لي مجالاً للتهرّب، فانزويت في ركن بعيد وكتبت قطعتيْن من قصيدة عن الشّاعر المصريّ محمّد عفيفي مطر إثر الحرب على العراق، وقد كان الشّاعر المصريّ قد ندّد بالحكّام العرب الّذين انضوَوْا تحت نهج السّياسة الأميركيّة الّتي سعت _ وما زالت تسعى _ للهيمنة على المنطقة، وقد لوحق الشّاعر وسُجن. وألقيت القصيدة، فكان سميح القاسم نموذجًا للشّاعر الكبير الّذي يأخذ بيد شاعر في مقتبل العمر والشّعر.
أنا لا أنسى له هذا الموقف ما حييت، وعندما أصدرت ديواني الأوّل “أوّل الغيث حبّ” سنة 2004 كتبت له على نسخة الأهداء، “إلى أوّل من قال لي اصعد على المنبر وقل شعرًا”. ولا زلت أذكر كيف وقف سميح القاسم ودافع عن توظيفي لشخصيّة الخليفة العادل عمر بن الخطّاب توظيفًا سلبيًّا عندما سجن الشّاعر الحطيئة بعد هجائه للوالي الزّبرقان بن بدر. قام سميح القاسم مفسّرًا أنّ المقصود هو الحاكم الّذي زجّ بمحمّد عفيفي مطر في السّجن، وليس عمر الخليفة العادل القديم، وقال أنّ الشّاعر يضع في قفص الاتّهام الأنظمة العربيّة اليوم والّتي تتميّز بخيانة شعوبها بالوقوف مع أعدائها وقمع كلّ صوت حرّ ونبيل في هذه الأمّة.
وصرنا نلتقي كثيرًا في مناسبات عامّة وخاصّة. قبل رحيله الأخير كنت ألتقيه مرارًا مع عدد من الأصدقاء: الكاتب عصام خوري والمحامي جواد بولس والممثّل سليم ضو. كنّا نتناول عادة وجبات الفطور في طمرة أو عبلّين أو كفر ياسيف، ويدور الكلام حول السّياسة والأدب والمسرح، ولا يخلو الجوّ من المزاح والمرح، فقد كان سميح القاسم مرحًا، خفيف الظّلّ، وفي الوقت نفسه كان مثقّفًا إلى أبعد الحدود، إذ لا يمكن أن تنتهي مجالسة معه ولا يكون لك فيها نصيب وافر من الفائدة المعرفيّة والفكريّة والأدبيّة.
وقد كان يخطر ببالي أحيانًا أن أقوم وأدفع مقابل الفطور، ويشعر عصام خوري فينهرني هامسًا: “لا تغضب أبا محمّد”! وأحيانًا كان أحدنا يصل إلى صاحب المطعم للدّفع، فيقول: “الحساب وصل، دفع أبو محمّد”.
هذا هو سميح القاسم الّذي عرفته شاعرًا كبيرًا كريمًا واسع المعرفة صادق الموقف والقلم، كرّس حياته وشعره في خدمة وطنه وأمّته وعروبته وإنسانيّته. وما كنت أنا إلاّ عاشقًا فقيرًا تعلّم منه الكثير وعاش على غدير شعره الوفير الّذي ما زال منسابًا رقراقًا يسقي تراب بلادنا المتعطّش للحريّة.
فأيّ مشعل للفكر قد انطفأ! وأيّ قلب توقّف عن الخفقان!
سيبقى موتك جرحًا في صميم القلب لا يندمل.
ستبقى سيرتك ذكرى تعطّر مسارنا إلى الحريّة.
وسيبقى شعرك نبراسًا يضيء دروبنا إلى نور الحياة.
فنمْ مطمئنّا.