برغم من القيمة المعنوية لبعض أسباب المقاطعة التي يسوقها البعض في معرض تسويغهم لمقاطعة الانتخابات، إلا أن الظروف الراهنة التي يمر بها المواطنون العرب في إسرائيل، واستفحال الفاشية والعنصرية في المؤسسة والنظام على الصعيد الداخلي والمحلي من جهة، مقابل تعاظم نفوذ اليمين المتطرف واختفاء بديل حقيقي، حاليا، فيما يتعلق بآفاق التسوية على صعيد القضية الفلسطينية ككل، وفي ظل وجود “سلطة فلسطينية ” غير قادرة على حماية نفسها، ولو حتى على مستوى الاحتفاظ بتصنيفات “الشخصيات المهمة للغاية” لرموزها، فإن احتمالات وفرص رفع التمثيل العربي الحقيقي في الكنيست، وضمان صوت فلسطيني مغاير، يحمل الثوابت الفلسطينية ، كما هو الحال في حالة التجمع الوطني الديمقراطي، تلزم المواطنين العرب، و”بعض المثقفين” الذين اعتلوا موجة المقاطعة من قلب “البرج العاجي لمؤسسات البحث الإسرائيلية ومراكز الإحصائيات” ، بإعادة النظر في موقف المقاطعة والأخذ بضرورات الواقع الراهن في سبيل السعي لتعزيز التمثيل العربي في الكنيست.
فمن غير المعقول مثلا أن نشهد حربا ضروسة بين أحزاب اليمين الإسرائيلية وبين اليسار والوسط الإسرائيلي على أصوات الناخبين اليهود بفعل مصيرية المعركة الانتخابية الحالية، فيما يسمح أبناء الأقلية الفلسطينية لأنفسهم بترف اللامبالاة والعزوف عن المشاركة في الانتخابات بحجة عدم القدرة على التغيير، أو بحجة أن النواب العرب لا يقدمون للمواطن العربي شيئا، وهي فرية أفرزتها المؤسسة الإسرائيلية لضرب الأحزاب العربية ككل والتحريض عليها، وتلقفها بالأساس أناس خابت آمالهم الشخصية بالنجومية أو بالوصول إلى الكنيست، ففروا إلى “البحث العلمي” يستترون خلفه متعاونين عن سابق إصرار مع تحريض السلطة وحربها النفسية على الجمهور العربي بشكل عام، لضمان القطيعة بينه وبين أحزابه السياسية الفاعلة، ومن ثم ضمان عدم خروجه إلى صناديق الاقتراع وعدم مشاركته في الانتخابات مما يعني عمليا تحييد 8% من الأصوات ، وحرمان العرب ولو حتى من “شبهة التأثير على تركيب الحكومة والائتلاف الحكومي، حتى لا يشعر العرب في إسرائيل بأنهم يملكون حقا قدرة على التأثير.
وكي لا أتهم بكثير من التبرير أو المنافحة غير المجدية سأكتفي بتذكير القارئ والناخبين العرب بأن أحدى التهم التي وجهت لحكومة رابين عام 92-93 كان اعتمادها على الجسم المانع الذي شكلته الكتل العربية في الكنيست. واليوم، نحن أمام فرصة جديدة مشابهة من شأن أحزابنا العربية (على الرغم من التمايز بينها في الموقف وصلابته بين حزب وآخر) أن تملك من جديد قدرة مشابهة تعكس عمليا فرصة يفترض أن تكون تاريخية للعرب في الداخل، للتأثير ولو قليلا على مجريات الأمور في إسرائيل والحكم. إذ تشير غالبية الاستطلاعات إلى أن كتل اليمين تملك حاليا 63 مقعدا (يشمل شاس) مقابل 57 مقعدا لليسار والوسط في حال صوت 52% من العرب، ولكن إذا ارتفعت نسبة التصويت عند العرب فإن ذلك سيزيد حتما التمثيل العربي بمقعدين على الأقل مما يعني تغيير موازين القوى بين كتلتي اليمين واليسار، وعندها ستختلف حسابات الأحزاب اليهودية نفسها لدرجة قد تأتي بشاس إلى اليسار، وهو احتمال بات واردا على خلفية النزاع مع الليكود على حقيبتي الداخلية والإسكان، أو على الأقل تفضي إلى حكومة جديدة بدون الليكود وبالاعتماد على جسم حاسم من العرب.
لا يمكن للعرب في إسرائيل هذه المرة أن يأخذوا موقف المتفرج أو المحايد، بينما بمقدورهم إن زادوا من نسبة التصويت أن يغيروا من موازين القوى في إسرائيل.
إن حالة العرب في إسرائيل تذكر بحالة السود والإسبان في الولايات المتحدة، الذين كانوا دائما المتضررين من سياسات الحزب الجمهوري، لكنهم لم يسارعوا للتصويت للحزب الديمقراطي، وظل الأمر كذلك إلى أن تغير الوعي الانتخابي (ولا أقول الوعي السياسي أو العقائدي) عندهم، مع ترشح أوباما فشاركوا بقوة ضمنت انتخاب أوباما في الولاية الأولى والثانية، وكانوا من أوائل المستفيدين، داخليا، من إصلاحاته في مجال التأمين الصحي والخدمات الاجتماعية.
إننا لا نطالب اللامبالين أو المقاطعين بتغيير وعيهم السياسي أو العقائدي، ولكن على الأقل تغيير وعيهم الانتخابي والخروج من دائرة “اللامبالاة” و”العجز أو اليأس” من التغيير باتجاه العمل للتغيير فعلا وقولا، على الأقل على مستوى المشاركة الانتخابية وإعطاء الكم العربي في إسرائيل وزنه النوعي في التأثير السياسي والمجتمعي.