وقفات على مفارق الدروز وهدم البيوت وقصر الذاكرة، بقلم: النائب السابق سعيد نفاع
تدأب النّخَب الثقافيّة الصادقة في كل مجتمع أن تتداول هذا المصطلح إيجابيّا كي تعيد لمجتمعاتها الذاكرة الجمعيّة في أحوالها، متوخيّة أن تشكلّ هذه الذاكرة سدّا أمام قيادات وسياسيّين في تلك المجتمعات التي تستغلّ هذه الحالة، قصر الذاكرة، أبشع استغلال، في تثبيت مراكزها ومصالحها على حساب الصالح العام
الوقفة الأولى: مع قصر الذاكرة.
“قِصَر الذاكرة” هو نسيان ما مرّ على الناس من أحداث، وفي سياقنا، أحداث شكّلت مصدر نقمة امتصها قياديّو أولئك الناس. وهو مصطلح متداول على الألسن في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، يعاني من نتائجه السواد الأعظم من الناس بسبب الهموم التي تكتنف عادة حاضرها، غير مدركة أن هذه الهموم مرتبطة بشكل أو بآخر ولو جزئيّا، بقصر ذاكرتها المتمثل في نسيان أسباب ومسبّبات همومها وصفحها عن قياداتها.
تدأب النّخَب الثقافيّة الصادقة في كل مجتمع أن تتداول هذا المصطلح إيجابيّا كي تعيد لمجتمعاتها الذاكرة الجمعيّة في أحوالها، متوخيّة أن تشكلّ هذه الذاكرة سدّا أمام قيادات وسياسيّين في تلك المجتمعات التي تستغلّ هذه الحالة، قصر الذاكرة، أبشع استغلال، في تثبيت مراكزها ومصالحها على حساب الصالح العام، وسلاحها ديماغوغيّة فظّة، وفي غالب الأحيان تقدمة خدمة لأسيادها أولياء نعمها تطوّعا أو حسب توجيهات عليا، تأتي عادة من الغرف المنزوية خافتة الأنوار.
الوقفة الثانية: مع تاريخ الأزمة وامتصاصها.
من نافل القول أن انعدام الخرائط الهيكليّة في القرى الدرزيّة والهدم وتشليح الناس أقوات أبنائهم بالغرامات الباهظة، ليس جديدا وقيل وكتب فيه وحوله الكثير حتى صار الحديث فيه اجترارا. ومن نافل القول أن الأمر لا يختلف بين حرفيش وقلنسوة وأم الحيران، اللهم إلا في أمر واحد هو: أن الدروز اعتقدوا بداية أن خدمتهم العسكريّة وخصوصا وأنها إجباريّة ستشفع لهم، وعندما أثبتت الوقائع عكس ذلك، دأبت من تسمّي نفسها قيادتهم أن توهمهم أن الأمر كذلك، وكلّما تفاقم الوضع واشتدّت النقمة على المؤسسة، تقوم تلك القيادات بتنفيسها بائعة للناس وب-“الجُملة” وعودا ما تفتأ أن تفوح رائحة فسادها، وما أن تفوح، واعتمادا على قصر الذاكرة تعود الاسطوانة المشروخة إلى الدوران وبنفس النغمات النشاز: “وقع خطأ وسنعالجه… عقدنا اجتماعا مع الوزير… ووعد بالحل… فطولوا بالكم و.. و..”.
أعلنت “القيادات” الدرزيّة يوم ال-24 من كانون الثاني 2017 إضرابا احتجاجيّا وتحذيريّا على خلفية الهدم في حرفيش وأوامر الهدم في كل من عسفيا والمغار، وقد “نفق” الإضراب وبعدً لم يجفّ حبر البيان الصادر عنها (بالمناسبة المليء بالأخطاء اللغوية والإملائيّة التي يستحي فيها طالب إعداديّ)، إذ إن البيان، وبتدبير مدبّر، لم يصل إلى الناس مثلما يجب واكتفى القيمون بنشره في المواقع الإلكترونيّة، طبعا لكون الدروز ضليعين بالتخنولوجية الحديثة ومتابعة المواقع الإلكترونيّة، فكان هذا كافيا(!).
والملفت أن نصف البيان كان رجاء من الناس أن “يطوّلوا بالهم” ويحافظوا على الهدوء، إعطاء الفرصة للقيادات أن تستوفي اتصالاتها مع المؤسسة الواعدة إياهم أن تحلّ المشكلة خلال ستّة أشهر (!). ولا يصحّ في ذلك إلا المقولة: “يا وعد إبليس في الجنّة”.
الوقفة الثالثة: مع وذكّر إن نفعت الذكرى !
في العام 1987م وعلى أثر المواجهات في بيت جن، والتي عرفت بمعركة أرض الزابود، غير أن في لبّها كان هدم البيوت وسجن ستّة أرباب عائلات من القرية، على أثر ذلك استنفرت حكومة إسرائيل الليكوديّة متخذة قرارا رقمه 373 بمساواة الدروز، فهل من حاجة أن نذكّر أن أرقام قرارات الحكومة اليوم صارت في عَداد الآلاف ؟!
وحتى لا نغوص كثيرا في التاريخ، ففي أواخر العام 2010م طرحت حكومة الليكود اقتراح قانون ميزانية الدولة للسنوات (2011-2012). توجهنا حينها بعض أعضاء الكنيست الدروز لمركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست لتزويدنا بدراسة حول القرى الدرزيّة في الاقتراح. وبيّن الاقتراح (الذي صدر حينها بالمناسبة باسم أحد نواب الائتلاف)،أن الحكومة قامت بشطب كل البنود الخاصّة في القرى الدرزيّة (תקנות צבועות)، لتبلغ نسبة التراجع عن الميزانيّات السابقة، الشحيحة أصلا، 39%.
طرحت الأمر حينها على جدول أعمال الكنيست، وقمت حينها بإرسال الدراسة مع بروتوكولات النقاش لكل “القيادات” الدرزيّة، أحيطهم علما بالمعطيات وأبعادها، وأهم هذه الأبعاد هو أن في إسقاط الأمر من قانون الميزانيّة معناه تعرية حقّك في الميزانيّات من الصفة القانونيّة، لتصير تحت رحمة هذا الوزير أو ذاك، أو هذا الموظف السلطويّ أو ذاك.
استنفر بعضهم مهدّدين مرعدين وعقدت الاجتماعات خلف الأبواب المغلقة في غرف الموظفين، وإذ بالغرف كالجبل يتمخّض أوائل العام 2011م وبعد إقرار الميزانيّة، يعني ب-“المشبرح… بعد أن عدّى السبت…”، فيلد فأرا على شكل: خطّة خمسيّة من 581 مليون شيكل تعوض عن عدم شمل المخصصات في الميزانيّة حسب الادعاء، واشترت القيادات السمك في البحر، والذي سريعا بدأ يتبيّن نفوق غالبيّته. (أتتذكرون أيها الناس الطيّبون البسطاء، الطنطنة التي قامت حينها؟!).
وتسابق النائبان الليكوديّ واللبرمانيّ على الغنيمة ” طبعا بعد أن كانا دعما قانون الميزانية، فدعا النائب “الليبرماني” القيادات للقاء احتفاليّ في الكنيست احتفاء بالإنجاز العظيم، حضره العشرات وفي مقدمتهم شيخ الطائفة، وحين وقفت وقلت لمدير مكتب رئيس الحكومة: “إنكم كاذبون، وهذه خطّة هراء בולשית”، لم يرُق الأمر للبعض بين “سرّه وخالقًه”، فما كان ليجرأ أن يعترض.
ولنستمرّ في التذكير لعلّ في التذكير منفعة، مع بالغ شكّي. شملت الخطة ميزانيّة خاصّة للتخطيط والبناء لحل المشكلة المستفحلة، والتقى الوزير برؤساء المجالس مدعّمين بقيادات أخرى في أوائل شهر نيسان 2011م عشيّة عيد الفصح، واعدا أن يشكل بعد الفصح مباشرة لجنة مختصين تبدأ باللقاءات مع كل مجلس بشكل تفصيليّ على الخارطة الهيكليّة ومناطق النفوذ.
ومرّت الأشهر وبدأت ال”בולשית” تطفو على السطح، ف-“الفطائس تطفو… أليس كذلك؟!”. وإذ برئيس منتدى الرؤساء الدروز حينها، رئيس مجلس البقيعة، يستصرخ المعنيّين برسالة شديدة اللهجة وعينيّا حول الأمر أعلاه، مرسلا منها نسخا لأعضاء الكنيست “الدروز”. أخذت الرسالة على محمل الجد واستجوبت الوزير حالا فاعترف ومن على منصّة الكنيست بقصور موظفّي مكتبه، هكذا (!) واعدا أن يعالج الأمر.
وبشّر رئيس الطائفة الجماهير المحتشدة في بيت جن باجتماع قطريّ احتجاجيّ في ال-2013م ، أن في حوزته وعدا قاطعا من الدولة أنه خلال سنة ونصف ستكون كلّ مشاكل التخطيط عند الدروز في خبر كان، “محلولة ومظبطة”، وصبرنا كثير وما بقي إلا القليل !
الوقفة الرابعة: مع الجحر والمؤمن.
وها الوقت يطول، وهذا الهدم يطال حرفيش ويتهدد المغار وغيرها، وقرانا دون خرائط هيكليّة، فما الفارق يا ترى بين وعود ال-2011 وال-2013 ووعود ال- 2016 ؟!
ألا يصح فيها المثل العاميّ: “تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي”. فكم مرّة وإلى متى أيها الناس الطيبون ضحايا هذه السياسة وأزلامها، في قرانا الصابرة صبر أيوب، ستلدغون من نفس الجحر؟!
ألم يًقل: لا يُلدغ المؤمن من الجحر مرتين ؟!
ملاحظة: كل الوقائع أعلاه مغطاة بوثائق خطيّة وموجودة لمن يهمه الأمر ويحب أن يطلع.
أواخر كانون ثاني 2017