قراءات في رواية “مأساة السّيّد مطر” كتبها الشاعر احسان ابو غوش
متى سيولد السّيّد مطر في مأساته، قراءات في “مأساة السّيّد مطر” كتبها الشاعر احسان موسى ابو غوش
مأساة السيّد مطر رواية للكاتب مجد كيّال الذي بوّبها بأربعة فصول: الولادة، والطّفولة، والورطة، والموت، الصّادرة عن الأهليّة للنّشر والتّوزيع، وتقع في مئة واثنتين وعشرين صفحة من الحجم المتوسط.
رواية سردها الكاتب بأسلوب غير نمطيّ واستثنائيّ خرج فيها عن الأسلوب التقليديّ المتّبع ووظّف خلالها الرمزيّة بأبعادها، كما اتخذ التّناص أسلوبًا، فاستشهد بآيات قرآنيّة وأساطير إغريقيّة ووظفها لخدمة النّصّ، وبلغة بسيطة ربما تفتقر أحيانًا إلى البلاغة لكنّها عميقة بمضمونها وفحواها مستخدمًا بذلك أسلوب “السّهل الممتنع”، وقد تحتاج الرّواية إلى أكثر من قراءة للوقوف عليها وسبر غورها.
يستهلّ الكاتب مجد كيّال روايته في فصل الولادة بالرّغبة الإنسانيّة “كانت رغبة الإنسان في السّباحة، ثمّ كان البحر أزرق هادئًا (ص7)” مقولة تحمل دلالات فلسفيّة وكأنّ لسان حال الكاتب يقول: إنّ الرغبة تسبق الوجود ، طرح فلسفيّ يذكرنا بالمذهب الوجوديّ لسارتر الذي يرى بالوجود كسابق للتّعريف، ” في البدء، في البدء كانت رغبة الإنسان في السّباحة (ص7)”.
وفي سياق آخر ورد أنّ “السّقف عالٍ دون نهاية، يطل منه الله وملائكة ينتظرون أن يتبدد الغبار…(ص21)” معتقد سائد بين المجتمعات الدّينيّة وكأنّ الذات الإلهيّة تطلّ علينا من علٍ، يقابله معتقد آخر يرى بالذات الإلهيّة في كل مكان، موضوع طرحه رجال الدّين والفلاسفة على طاولة الجدل، ما يثير سؤالًا في هذا الصّدد، هل الإله ذات أم معنى؟
هذا وينهي الكاتب فصل الولادة ” كان كابوسًا في غيبوبة لامرأة أجهضت لتوّها (ص26)” وكأنّ هذا ايضاح وإجابة على المشاهد الضبابيّة غير الواضحة في الفصل الأوّل، مشاهد اكتنفتها اللّهجة القريبة من الغُنوصيّة –إن جاز التعبير-، ، ما يدخل القارئ في طلاسم وعالم مبهم وكأنّه يعايش الحلم أو الكابوس. فالسيّد مطر هو شخصيّة لم تولد بعد، أجهضته أمه رقيّة حين الولادة، بيد أنّه لعب الشخصيّة المركزيّة والمحرّكة في الرّواية “لم يكن سيّد قد ولد ليعرف إن كانت تلك حياته الحقيقيّة أم أنّها مجرد حلم (ص27)”. مشهد التمييز الإدراكي –إن جاز التعبير- بين الواقع والحلم، وكأنّ مَجريات الكون بأسره حلم كبير، يذكرنا بالشّكّ الدّيكارتي ” إذا أفكر إذن أنا موجود” وعلى غرارها استخدم كاتبنا “أنا أتألّم إذن هو موجود (ص77)”، كما لم يصغِ السيّد مطر لقصّة جدّته، بل كان يشكّك بالحقائق (ص31)”.
كما يبدأ فصله الثّاني “الطفولة” بتحديد تاريخ المشهد، الثّامن عشر من كانون الأول عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، حيث ودّعت رقيّة ابنها “الطفل الذي لم يولد صار كبيرًا (ص29)”، هنا في هذا الفصل يكون الرّاوي أحيانًا بالعارف الكلّي الذي يستخدم الايماء والتلميح أحيانًا أسلوبًا يلمح فيه للقارئ بمشاهد مرتقبة ستحدث وقد أشار لنا مسبقًا إلى أنّ “أمنون” ،اليهوديّ الشرقيّ الذي يمثل شريحة كبيرة في البلاد، “ينظر خطرًا لم يأتِ بعد (ص31)” ذكرها الرّاوي أكثر من مرّة، والخطر أتى في نهاية الفصل الثّاني عندما يطلق أمنون النّار على دادو الذي كان يعصف بإلينور فوق طاولة المكتب وأرداه قتيلًا انتقامًا لشرفه. “عرف أمنون أخيرًا وتأكّد أنّ الخطر الّذي كان ينتظره دائمًا ولم يأتِ، كان يكمن عميقًا في داخله، داخل الأسئلة الّتي لم يسألها أبدًا. تلك هي ثمار الحبّ (ص53)”
رغم قصر الرّواية نسبيًّا، من حيث الأحداث والشّخصيّات، إلّا أنّ الكاتب طرح فيها قضايا سياسيّة عديدة ومتشعّبة، نذكر منها: قضيّة اليهود الشرقيين المتمثلة بشخصيّة أمنون، الغوّاصة الألمانيّة، معاناة الأسرى في السّجون الإسرائيليّة المتمثّلة بشخصيّة يحيى، قصّة تهجير الطّنطورة، أحداث أكتوبر 2000، قضيّة أطفال اليمن، الذّكرى الخامسة لاغتيال إسحاق رابين، مستخدمًا بذلك الاسترجاع الفنّيّ “الفلاش باك” والرّجوع إلى أزمنة متفاوتة مع الدّقة في تواريخ الأحداث. هذا فضلًا عن عرض القضايا الاجتماعيّة التي يواجهها المجتمع العربيّ كالقتل، ،والخيانة، والزّواج بين قوميّات وديانات مختلفة كزواج السّيّد مطر المسلم من ديمة المسيحيّة وزواج ألينور اليهوديّة من الدّكتور أمين العربي، وغيرِها من القضايا.
نستشف من خلال قراءاتنا للرّواية أنّ الكاتب على اطّلاع بالفلسفة وبالميثولوجيا والأساطير الإغريقيّة التي استشهد بها، كما أسلفنا، كما استشهد بآيات قرآنيّة استخدمها لخدمة النص ووظّفها لدعم المشاهد في الرّواية (وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجّرت،)(سورة التّكوير) وجاءت هذه الآيات في سياق الحديث عن البحر، (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) قصّة عبورهم البحر، (وما صاحبكم بمجنون) وجاءت هذه الآية لتشير إلى أنّ السّيّد مطر لم يكن مجنونًا، فمفهوم من يرى ذلك.
قد تطغى الرمزيّة على الرّواية وخصوصًا البعد الرمزيّ الذي تقف من ورائه شخصيّة السيّد مطر الذي بدا ولأوّل وهلة وكأنّه غريب الأطوار، وشخصيّة استثنائيّة، فهو لم يولد بعد مع أنّه يشكّل الشخصيّة المركزيّة لأحداث الرّواية، ووجوده في الرّواية مجازيًّا، وحين ينام ” يكون كالميّت، كأنّه ليس موجودًا في هذه الحياة، قد يهتزّ العالم كلّه، يُقصف، يُدمّر، حرب غزّة، مجزرة، لا يهم، إنّه لا يستيقظ، يستيقظ في الصّباح فقط ليذهب إلى العمل (ص58)”. إذن، هو لم يستيقظ ليلًا إلا مرّة واحدة كما قالت ديمة زوجه: “بلى استيقظ مرّة في خريف العام 2000 ومارسنا الجنس ليلًا” وهنا إشارة من الكاتب إلى هبّة أكتوبر 2000 حيث يجسّد السيّد مطر مأساة الشّعب الفلسطينيّ وتحديدًا في الدّاخل، وكأنّهم في سباتهم العميق، نائمون كأهل الكهف ولم يستيقظوا إلّا في هبّة أكتوبر ليمارسوا حقوقهم الشرعيّة، فممارسة الجنس هنا ليس بمفهومه الدّارج الإباحيّ، بل بمفهومه التّجريديّ العذريّ الصّادق المعبّر عن المتعة الجميلة القاضية بمطالبة الحقوق والعدل المساواة.
وديمة زوجه هي ديمة نفسها التي كانت زميلته أثناء الدّراسة، ديمة هي الوطن الخصب المتنازع عليه بين السّيّد مطر وبين الشّخصيّة التي لم يحدّد لها الكاتب اسمًا، فجرّدها من هُويّتها، عن قصد أو دون قصد، ربما لعدم شرعيّتِها، “ديمة المكان ونحن نزورها (ص93)”
ومن الجدير ذكره أنّ أسماء الشخصيّات لم ترد بمحض صدفة بل اختار الكاتب أسماء تحمل مدلولات من شأنها خدمة النّصّ فالسّيد مطر النازل من السّحاب في مواسم مختلفة، وهذا يفسر باعتقادي، سبب عدم استيقاظه ليلًا إلّا ما ندر، والدّيمة هي المطر الذي يطول سقوطه، فهي تمثل الأرض الخصبة التي تؤتي أكلها.
هذا وينهي الكاتب روايته ببادرة أمل واستمراريّة ” وعندما خيّم اللّيل، دخل العريسان، على سنّة الله ورسوله، إلى بيتهما وغرفتهما البيضاء. هناك عاشوا، ديمة وعلاء الدّين، حياتهم بثبات ونبات وأنجبوا صبيانًا وبنات…(ص122)” استمراريّة الوجود تأتي تباعًا من السّيّد مطر ويليهِ أخوه علاء الدّين ومَنْ تَبِعه ممّنْ خَلَفَهُ وهكذا دواليك، ما يشير إلى أن قضية شعب مستمرّة، “وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا (ص121)”.