عبد الباري عطوان: العرب ينتفضون والفلسطينيون يتفاوضون
بشرنا الرئيس الفلسطيني محمود عباس امس بأن حل السلطة الفلسطينية “غير وارد”، واضاف المزيد من الملح على جرح كرامتنا النازف عندما اكد في حديث ادلى به الى صحيفة “الأيام” الصادرة في رام الله، بان التنسيق الامني مع اسرائيل مستمر، وان ما يقال من مطالب بوقف هذا التنسيق “مزايدات رخيصة”.
كلام الرئيس عباس هذا جاء عشية قيام وفد فلسطيني برئاسة السيد سلام فياض رئيس الوزراء وعضوية كل من ياسر عبد ربه امين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، والدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين بالالتقاء ببنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي وتسليمه رسالة تتضمن وجهة نظر السلطة بشأن التسوية السياسية.
كنا نتمنى لو ان الرئيس الفلسطيني اختار كلماته بعناية، فأحد ابرز المطالبين بإنهاء التنسيق الامني مع اسرائيل كرد على التغول الاستيطاني الذي تمارسه حكومتها في الارض المحتلة هو الاسير مروان البرغوثي، ولا نعتقد انه من الاشخاص الذين يجب ان توصف مواقفهم المبدئية هذه “مزايدات رخيصة”.
الاكثر من ذلك ان العديد من اعضاء اللجنة المركزية لحركة “فتح” حزب السلطة، طالبوا بالشيء نفسه واكثر من مرة، حتى ان السيد نبيل ابو ردينة قال ان الرئيس عباس سيتخذ مواقف تغير خريطة الشرق الاوسط كرد على السياسات الاستيطانية الاسرائيلية وانهيار حل الدولتين.
التنسيق الامني لا يخدم السلطة مثلما يقول الرئيس عباس في المقابلة نفسها، وانما اسرائيل ومستوطنيها، وكان قد لوح اكثر من مرة بالإقدام على هذا الخيار، ونعرف انه جاء بهذا الطرح، اي الدفاع عن التنسيق الامني وتبريره، بعد المكالمة التي اجراها معه الرئيس الامريكي باراك اوباما وقال له فيها وبالحرف الواحد ان هذا التنسيق هو حماية لحياته ايضا، اي حياة الرئيس محمود عباس شخصيا.
السلطة الفلسطينية باتت بلا سلطة، ورسالة الرئيس عباس الى نتنياهو، وقبل ان تعدل خمس مرات تلبية لطلبات امريكية، نصت على ذلك حرفيا، بل ان الرئيس عباس نفسه اشتكى اكثر من مرة من الاهانات التي يتعرض لها في كل مرة يتقدم فيها مكتبه لتجديد تصريحه الامني، وبطاقة خروجه من رام الله، حتى انه اقدم بنفسه على نشر صورة عن هذا التجديد احتجاجا على هذه الاهانات.
الرئيس عباس هو مهندس اتفاقات اوسلو ويدرك جيدا انه جرى توقيع هذه الاتفاقات للتوصل الى دولة فلسطينية مستقلة، بعد خمس سنوات من قيام السلطة، والآن وبعد عشرين عاما من التوقيع تضاعف الاستيطان الاسرائيلي في الضفة والقدس المحتلتين مرتين، وفاق عدد المستوطنين رقم النصف مليون.
لا نعرف لماذا يحتاج الامر الى وفد من ثلاثة اشخاص لتسليم رسالة الى نتنياهو لشرح رؤية السلطة الفلسطينية للسلام وحل الدولتين، فإذا كان نتنياهو وبعد عشرين عاما من المفاوضات المغلقة والمفتوحة، وآلاف المحاضر، لا يعرف هذه الرؤية الفلسطينية فهذا تفسيره احد امرين اما انه فاقد البصر، او ان المفاوضين الفلسطينيين عجزوا كليا عن توضيح هذه الرؤية.
نتنياهو ليس كفيفاً، وحتى لو كان فإن هناك من هم على استعداد لكي يقرأوا له محاضر المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، ولا نعتقد ان السلطة ورئيسها وكبير مفاوضيها لا يعرفون كيف يقومون بشرح وايصال هذه الرؤية بكل تفاصيلها الى الطرف الاسرائيلي، المسألة بكل بساطة ان الرئيس عباس يريد العودة الى مائدة المفاوضـات مجددا، ويتحرش بالاسرائيليين في هذا الصدد. فقد ذهب الى العاصمة الاردنية عمان والتقى وفده الاسرائيليين في تخل مهين عن جميع شروط وقف الاستيطان، وقالوا للشعب الفلسطيني انها مفاوضات استكشافية فقط.
حل الدولتين سقط، والعملية السلمية التي انبثقت من رحم كامب ديفيد ماتت وشبعت موتا، والسلطة الفلسطينية باتت هيئة خيرية وظيفتها التسول لدفع رواتب 160 الفاً من موظفيها، حيث تم استبدال وكالة غوث اللاجئين بالسلطة من حيث تقديم “رشوة” للشعب الفلسطيني للبقاء على قيد الحياة، ونسيان قضيته وابجدياتها في الوقت نفسه.
الشعب الفلسطيني الذي كان طليعياً في ثوراته وانتفاضاته ضد الظلم ونهب حقوقه وسرقة اراضيه بات شعبا متسولا يعيش على فتات الصدقات من الدول المانحة ومتى؟ في زمن تنتفض فيه الشعوب العربية ضد الظلم والفساد والقمع.
الذين يطالبون بحل السلطة ووقف التنسيق الامني لا يمارسون مزايدات رخيصة مثلما يصفهم الرئيس عباس، وانما هم اناس يطالبون بعودة الكرامة الى الشعب الفلسطيني، ونفي صفة الخنوع عنه، والانتصار لشهدائه وعشرات الالاف من اسراه القابعين في سجون الاحتلال.
الرئيس عباس يقترب من الثمانين من عمره، وقال اكثر من مرة انه يريد التقاعد، وزهد كلياً في المناصب، ولكن تصريحاته هذه تثبت عملياً ان هذا الكلام غير دقيق. كنا نتمنى لو ان الرئيس عباس انهى حياته السياسية بشكل كريم وان يقف وقفة عز تاريخية ويعلن حل هذه السلطة.